مسكون بالجذور، مُتيّم بثقافته العربية وبحكايات وطنه العراق الأثيرة الخالدة، الخازنة مبدأ الحكاية ومنتهاها.. إنه الفنان والباحث التاريخي ضياء العزاوي، المُنبري دوماً لنثر مقامات ألق وعراقة بلده وعالمه العربي، عبر التشكيل والنحت والبحث والأساليب الإبداعية المتنوعة الأخرى، الذي يؤكد في حواره مع «البيان» أن تتويجه بجائزة نوابغ العرب 2024 عن فئة الأدب والفنون تاج فخر واعتزاز.
ووسام رفيع يبرهن قيمة إبداعه وأهمية مساره، موضحاً أن الجائزة تمثل رافعة جوهرية في دروب تحفيز مبدعينا لإثراء حضارتنا وتمكينها من الإسهام الخلاق في مسارات الحضارة العالمية، لافتاً إلى أنها تترجم وتعكس، في جوهرها، فكر ورؤى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الحاكم المبدع الذي يبتكر الأفكار المذهلة.
«تاج فكري وإبداعي، درّي، يبرهن قيمة منجز الفنان العربي.. يعكس حقائق غنى وتأثيرات مسيرته الفنية والفكرية.. يُلهم ويحفز مبدعي العرب نحو مزيد العطاء والتميز».. تلك هي المعاني والقيم الأبرز التي تحفل بها وتختزنها جائزة «نوابغ العرب 2024 عن فئة الأدب والفنون، حسب رأي الفنان العراقي ضياء العزاوي:
أعتز وأفخر بحصولي على هذه الجائزة، التي تمثل تأكيداً على صحة المسار الذي رسمته واعتمدته في نهجي الإبداعي، القائم على مسار وخيار التحريك الفعال المجدي في طرح الأسئلة التي تشغلني غاية إغناء الحراك الثقافي العربي بوجه خلاق يجعله متكاملاً وثرياً في تفاعله وحواراته مع الثقافات الأخرى التي تشاركنا في تطوير العلاقة الإبداعية في عصر لا يحتمل أي إهمال.
نهج وسمات
«محمد بن راشد حاكم مبدع يبتكر الأفكار المذهلة فيحولها واقعاً خلاقاً يؤسس معه لقصص المستقبل الزاهر».. تلكم هي اللوحة التي ترسمها مدارات حديث ضياء العزاوي في توصيفه نهج وسمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يركز في مبادراته ومشروعاته الإبداعية على تمكين دعائم هياكل إعلاء مكانة الثقافة والحضارة العربيتين، فتعزيز حضورهما المؤثر عالمياً، لاستئناف مسيرة إسهامنا في تطور الحضارة الإنسانية:
زرتُ دبي عام 1982 بعد معرض شخصي أقمته في أبوظبي حينذاك، وكانت الإمارة قد باشرت بالفعل مسارات عمل إبداعي مواعد. وعبر سنوات متعاقبة.
وفي ظل حصاد نجاحات مهمة متوالية، بلغت الإمارة منزلة عالمية رفيعة، عقب أن تخطت العقبات ونجحت في مواجهة التحديات بجدارة، بفضل فكر ورؤى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، الذي يمتلك طاقة لا تعرف التعب، ولا يمل الاشتغال الجدي والمواظبة على بلوغ الريادة. إن سموه يسير مع المستقبل لكي يكون ابن هذا العصر، وقد أفلح في أن يوجِد في تحديه هذا نموذجاً يفرض نفسه في عالمنا.
مثقف موسوعي
حقول ثقافية وإبداعية عديدة تخصص فيها ضياء العزاوي، استطاع أن يترك فيها جميعاً بصمة متميزة، ولكن في أي منها يجد نفسه أكثر؟ وأيها استطاع فيه أن يبدع بكامل طاقته؟ وما المسمى الذي يفضله ويختاره؛ التشكيلي والنحات، أم أنه الباحث التاريخي والمثقف الشامل؟
أنا فنان متنوع التقنيات، رسام، نحات، وطبّاع، هذه الميادين الثلاثة مترابطة وقادرة على إغناء بعضها بعضا، كما أنني معني بالتاريخ الإبداعي لأمتنا، وخاصة المخطوطات الإسلامية المكتوبة بالعربية. أميل إلى معرفة ما يحيط بي من أفكار، ثم لا أتردد في مغامرة الخوض في غمار عوالمها، ومن ثم تفكيكها بهدف اكتشاف عوالمها والتزود من كنوزها ورمزياتها. ولقد ساعدتني في الشأن كثيراً إقامتي في العاصمة البريطانية لندن، بموازاة تطور jمعارفي وأبحاثي في حقول المعرفة المتنوعة، إذ تمكنت من إنجاز نجاحات إبداعية لافتة، وبشكل بارز في مجال النحت والطباعة. وأود أن ألفت أنني منتظم جداً بأعمالي وبرامجي، فلا تفريط أو إخلال لديّ، مطلقاً، بضرورة احترام الوقت والتقيد ببرامج عمل علمية منهجية راسخة استطعت معها توظيف التقنيات الحديثة في فضاءات إبداعي لخلق حوار إنساني مثمر مع الآخر.
«مقاتل.. وشرفات»
تساؤلات كثيرة في جعبة أفراد مجتمعاتنا ومثقفينا حول آراء العزاوي بخصوص حال ثقافتنا العربية وماهيات التحديات التي تعترضها، وما تحتاج إليه من أسس تمتين وتقوية وإثراء، علاوة عن طبيعة العلاقة التي تربطه بوطنه في الوقت المعاصر، وسبب اختياره البقاء في منفاه الاختياري، لندن؟
سأبدأ من نقطة أجدها مفصلية في شأن ثقافتنا والتحديات التي تواجهها، وما يجدر أن نشتغل عليه للرسو بها على شاطئ الخلاص. إن ثقافتنا العربية لا تزال تعاني أزمات وتحديات مفصلية لا بد أن نعالجها بجدية وتصميم لنستطيع جعلها لامعة مؤثرة دولياً، ويتمثل أبرزها في التالي:
أزمة «المناطقية»، عدم قدرتها على مغادرة التعسكرات السياسية أو تخطي اختلافاتها، عجزها عن رسم خريطة موحدة للأحلام والأفكار، عدم تبني برامج عمل محكمة لإشاعة المعرفة عبر الأجيال الشابة، غياب أو ضعف خطط ومبادرات العمل المعنية بتشجيع الشباب على زيارة المتاحف والمكتبات، ضعف برامج تعويد الشباب على احترام الوقت والتعلق بالقراءة.
وأما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، فإن العراق لم يغادرني يوماً، فوطني يسكنني في كل اللحظات، أعيشه وأحلم به وأعشقه. منذ غادرت العراق لم أكف عن متابعة أحواله وشؤونه، وتجدني الآن، ومع تطور التقنيات الرقمية، حريصاً على قراءة الصحافة والمواقع الإخبارية العراقية يومياً لمتابعة دقائق الحياة هناك، ولا أغفل مواصلة التعرف إلى الجديد حيثذاك، ثقافياً وفنياً.
إن اختياري البقاء بعيداً عن العراق مرده أن العراق لم يعد كما عرفته بعد ما مر به من حروب وحصار وصراعات سيئة فاسدة حولته ساحة احتراب وتطييف وهوس وخرافات.
لم يتبق لي من العمر الكثير لكي أتبع طريق العديد من أمثالي، ممن عادوا للعراق.. ومن ثم أصبحوا نادمين على ما فعلوا. لن أعود إلى العراق في ظل منظومة الحكم الحالية. ومع ذلك، وكما قال الصديق مظفر النواب: «هذا العراق أحبه صحواً، وإن غامت لياليه، أحبه كذلك».
مركز ومنزلة
«حاضنة للتطور الثقافي والفني.. رائدة في المشهد الإبداعي العالمي».. هكذا يرى العزاوي حال الإمارات في الوقت المعاصر:
إن دولة الإمارات العربية المتحدة أفلحت في قطع أشواط تميز كثيرة في ميادين الإبداع والثقافة، كما في سواها من الميادين التنموية، فكما أنها تطورت وارتقت بمجالات العمران والاقتصاد والمجتمع، تمكنت من خط مسارات تفرد واضحة في حقول العمل الثقافي، جعلت منها مركزاً عالمياً للريادة والابتكار. واللافت أن الأجيال الجديدة في الإمارات تواجه تحديات العصر بقوة واقتدار، وبعين المستقبل وبشجاعة وكفاءة.
ولفت أن الإمارات استطاعت أن تعزز سمات الانفتاح والتنوع والتعايش بكفاءة من خلال خطط عمل فكري بناءة، مستفيدة ههنا من طبيعة تكوين المجتمع الإماراتي العريق بثقافته وتاريخه الذي يحتضن ثقافات وإثنيات متنوعة.
شغف لا ينتهي
يحكي العزاوي عن أسباب تمسكه وارتباطه الوثيق بالجذور وتركيزه على الاحتفاء بالثقافة العربية ومضامينها في نتاجاته الفنية:
لا حدود لشغفي وارتباطي بجذوري وقيم هويتي التي غرسها فينا معلمونا الأوائل. صحيح أني هاجرت من العراق قبل عقود، لكن العراق، والعالم العربي بمجمله، يسكن جوارحي، ويحرك أحاسيسي، ويقود أفكاري، على الدوام.
لقد درست الآثار يوماً فعرفت غنى تاريخ منطقتنا العربية وإسهاماتها الإبداعية الحضارية الإنسانية، وشاءت الظروف أن أغادر العراق وأن تتداخل الظروف وتطول سنوات التراجيديا، وما كان عليّ إلا العمل الجاد على تطوير تجربتي لأكون صادقاً مع نفسي وأميناً على تاريخ الأجداد الأفذاذ.
إن مواجهة ثقافة الآخر وإثبات المنزلة الرفيعة لثقافتنا لن يكونا مجديين ما لم ننطلق من روح لا تنفصل عن تاريخها، وقادرة أن تتسلح بمنجزات الحاضر بكل تنوعاته.
وبخصوص العقبات التي تعترض طريق ارتقاء ثقافتنا العربية، والوصفة التي تمكننا من بناء أجيال عربية مبدعة، تحمل لواء استئناف الحضارة العربية مجدداً، أعتقد أن كل شيء يبدأ من التعليم، فمن دون تطويره وتبني الجديد في سياقات تقديم المعرفة لن نخلق أجيالاً قادرة على مواجهة الواقع وانعكاساته المختلفة.
وعلينا أيضاً تحصين المجتمع بالمعرفة المتطورة من دون مغادرة بهاء واحات الهوية، التي هي في الوقت نفسه نبع حضور التباينات الثقافية والفنية في فسيفساء حضارة بشرية تتحدى بعضها بعضاً لإغناء الحوار المثمر.