عالم فسيح، وحياة موازية، ودنيا من الخيال المحلِّق في سماء الإبداع، يرحل فيها القارئ بفكره وهو يحمل بين يديه كتاباً يتأمل سطوره، وكأنما يشاهد لوحة أبدعتها أنامل فنان عبقري، ويتضاعف الشغف في نفسه حين يستمع إلى الكتاب بصوت رخيم، وعندها تدخل عباراته إلى قلبه دون استئذان.
وتؤكد تقارير صحافية أن الكتب الصوتية حققت نمواً متزايداً في مجتمعات غربية خلال السنوات القليلة الماضية؛ ففي عام 2023 ارتفعت إيرادات الكتب الصوتية في الولايات المتحدة بنسبة 9 %، وخلال الفترة نفسها ارتفعت الإيرادات في بريطانيا بما نسبته 24 %، وذلك وفق إحصاء عمليات تنزيل الكتب التي ارتفعت بين عامي 2022 و2023، في حين يبقى رصد نمو الكتب الصوتية العربية أكثر صعوبة، على الرغم من تأكيدات تزايد الإقبال عليها.
وكان لدبي دور سبَّاق في هذا الشأن، إذ وفرت مكتباتها العامة العديد من الكتب الصوتية، وعلى رأسها مكتبة محمد بن راشد التي تقتني أكثر من ألف كتاب مسموع في شتى المجالات والتخصصات باللغتين العربية والإنجليزية.
وفي السياق، استطلعت «البيان» آراء عدد من المبدعين والقراء، ليكشفوا عن مدى الإقبال العام على الكتب الصوتية، وعن طبيعة الدور الذي باتت تؤديه إلى جانب أشكال القراءة الأخرى، ونوعية الكتب التي تناسبها.
أنماط متوازية
وأوضحت أسماء المطوع، رئيسة ومؤسِّسة صالون «الملتقى الأدبي»، أن الكتب الورقية والصوتية والرقمية أصبحت جميعاً تشكل أنماطاً متوازية ويؤدي بعضها مع بعض أدواراً تكميلية، مشيرة إلى أنها لاحظت من واقع الخبرة أن كثيراً من الصالونات الأدبية حولت كتبها إلى رقمية.
وأكدت أنها على الرغم من ذلك ما زالت تحافظ على علاقتها بالكتاب الورقي وتفضله، لكنها لا ترفض التطور؛ لأنه يفرض نفسه بطبيعة الحال، لافتة إلى ضرورة أن تتم الاستفادة من التطور بصورة صحيحة؛ لكي يصب في المصلحة العامة ولا يتسبب في تغيير سلوكياتنا من الأحسن إلى الأسوأ.
وذكرت أن ثمة خلطاً شائعاً بين القراءة عبر منصات التواصل الاجتماعي لتحصيل معلومة قصيرة في زمن وجيز وبين قراءة كتب كاملة بصورة رقمية أو صوتية، موضحة أن الأشكال الحديثة للقراءة هي في حقيقتها وسائل سهلة لتوصيل الكتاب إلى القارئ، وأن انتقاء الوسيلة الأنسب يرجع إلى ذائقة الفرد ورغبته الشخصية.
تجربة ممتعة
وأكدت الشاعرة شيخة المطيري، أمين السر العام لاتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، ورئيسة قسم الثقافة الوطنية والوثائق في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، أنها تحرص على الاستماع إلى الكتب الصوتية منذ طفولتها، مشيرة إلى أنها بدأت هذه التجربة الممتعة في مكتبة الصفا للفنون والتصميم بدبي، حيث يوجد ركن خاص للأطفال غني بالإصدارات.
وأوضحت أن الاستماع إلى الكتب الصوتية عزز لديها الربط بين القراءة وكيفية نطق الكلمة ومخارج حروفها، ورسخ في وجدانها ذكريات طيبة للكتب التي قرأتها، مضيفة أنها انتقلت فيما بعد إلى قراءة نوع من القصص يشتمل في نهايته على أرقام هواتف تتوافر عبرها تسجيلات لما تمت قراءته ورقياً.
ولفتت إلى أن الكتب الصوتية تؤدي دوراً تكميلياً إلى جانب غيرها من الكتب الورقية والرقمية، موضحة أن إصدار ديوان المتنبي صوتياً، على سبيل المثال، مع وجود الديوان المطبوع، وفَّر ميزة إضافية تتيح للقارئ معايشة أجواء ذلك الشاعر العملاق بالاستماع إلى قصائده البديعة.
إيقاع متسارع
ورأت نوف أبو إسبر، إحدى زائرات معرض الكتب المستعملة الذي أقيم أخيراً في مركز دبي المالي العالمي خلال شهر القراءة الوطني 2025، أن الكتب الصوتية توفر تجربة مختلفة للقراءة تنسجم مع روح العصر وإيقاعه المتسارع، موضحة أنه بالإمكان مثلاً ممارسة الرياضة أثناء الاستماع إلى أحد الكتب المفيدة.
وقالت: «على الرغم من ذلك، تظل للقراءة الورقية نكهتها الخاصة ومذاقها الفريد؛ إذ تمنح القدرة على ترسيخ المعلومة في الذهن بصورة أوضح»، مؤكدة أن القراءة الصوتية، مع إيجابياتها الكثيرة، لا يمكنها أن تحل محل القراءة التقليدية.
وذكرت أنها جربت جميع أشكال القراءة: الورقية والرقمية والصوتية، لكنها خلصت إلى أن للكتاب الورقي حضوراً لا يُضاهى، منوهة بحرصها الشديد على ممارسة القراءة هي وأفراد أسرتها.
ملَكة الإلقاء
وخلال تجوله في معرض الكتب المستعملة في مركز دبي المالي، قال حسين حامد: «إن الكتب الصوتية مفيدة من حيث تصحيح النطق السليم للألفاظ والجمل، وكذلك تبرز أهميتها في التعامل مع النصوص الشعرية؛ إذ إن سماع الدواوين يساعد على اكتساب ملَكة الإلقاء».
وأضاف حامد: «أفضِّل القراءة عبر الكتب الورقية أو الأجهزة اللوحية؛ لأن التعامل مع الحروف المكتوبة له فوائد جمة، فهو يعزز الحفاظ على اللغة»، مشيراً إلى أن عدم الاهتمام بالإملاء والكتابة منذ البداية يُفقد القدرة على التمكن من اللغة، ويوقع في أخطاء لا حصر لها.
ولفت إلى ما تشتمل عليه القراءة من بُعد تعليمي يكتسبه الفرد تلقائياً، سواء في اللغة العربية أو الإنجليزية أو غيرهما، وهو ما لا يمكن تحصيله بغير القراءة التقليدية، معتبراً اللجوء إلى القراءة الصوتية أمراً استثنائياً في حالات معينة كالشعور بالإرهاق الذي يصاحبه إجهاد للبصر.