بالقرب من ميناء الدوحة القديم، وعلى مسافة ليست ببعيدة عن القوارب والسفن واليخوت ومطاعم الأسماك الشهيرة في المدينة، تقع تحفة معمارية وفنية فريدة في قلب العاصمة القطرية.
التحفة المعمارية تتشكل وسط منطقة سياحية مميزة بتصاميم عربية، تعكس الطابع المعماري للمدن الخليجية بداية العمران، بعد ظهور النفط وانطلاق الازدهار وتشكل البناء الحديث في ذلك الوقت الذي دخل فيه تكوين الأسمنت والشبابيك الملونة، وعلى جدرانها رسومات تلفت أنظار الزائرين.
تبدأ القصة مع قيام العديد من الفنانين المحليين والدوليين بإطلاق مشروع فني يهدف إلى إبراز الثقافة البحرية التي ارتبطت بشواطئ قطر والميناء القديم.
لوحات كبيرة اختيرت لعرض مشاهد تختزل تاريخ الميناء منذ بداياته وحتى عصر النهضة الحديثة التي شهدتها قطر. هذه اللوحات ليست فقط للفن، بل تشكل أدوات تعليمية تهدف إلى التعريف بالهوية الثقافية والبحرية التي كانت سائدة في القرن الماضي.
قصة مدينة
حكاية هذه الجداريات تأتي بملامح وجوه وشخوص ترتبط بالمدينة وقصتها. فالدوحة عامرة بالتنوع الثقافي، حيث تشم جنسيات عالمية عديدة في مدينة يؤطرها السلام والسكينة والفرح والابتهاج والاحتفال، كما ظهر أخيراً في احتفالات اليوم الوطني القطري.
بداية الصعود إلى الحي الملاصق للميناء تضع الزائر أمام جدارية تغطي مبنى كاملاً لامرأة لديها ملامح عربية فاتنة.. ونظرة مليئة بالتفاؤل والعمق.
اللوحة تؤدي وظيفة في إبراز دور المكان بصنع الأمل وتقديم رؤية واسعة تشبه عين الفتاة التي تنظر نحو الأفق كأنها تشاهد شيئاً قادماً من بعيد، وهو ما يمكن ترجمته بالقراءة البصرية بتنوع المنظر الذي يؤدي بالرائي إلى إدراك مختلف في كل مرة.
اللوحات الجدارية التي شارك في رسمها فنانون عالميون تقدم تشريحاً واضحاً لطبيعة المدينة من خلال سكانها ومعالمها الطبوغرافية والحضارية ورؤيتها المستقبلية بعد الازدهار وانتشار العمران الحديث الذي يطغى عادة على التراث، إلا في هذا المكان وسط المدينة الذي جاهد للحفاظ على ملامح خاصة يحبها السكان القدامى ويتعرف إليها الزائرون.
تفاصيل الحياة
تم تنفيذ العديد من اللوحات في أماكن استراتيجية داخل الميناء، ليتمكن الزوار من مشاهدة تفاصيل الحياة القديمة في قطر. بعض اللوحات تعرض مشاهد لصيادي اللؤلؤ، وأخرى تجسد مشاهد الحياة اليومية في سوق الميناء القديم.
وتضم بعض اللوحات رسومات عن السفن التقليدية ووسائل النقل التي كانت تستخدم في الميناء، مما يتيح للجمهور تجربة غامرة في تاريخ البحر في قطر.
وعلى جدار ضخم ملامح سيدة خليجية بالبرقع، تسكن إلى جانبها جدارية لفتاة بملامح أوروبية، وصغار وكبار من شتى دول العالم في رسالة للمكان عن التنوع والتعايش وسط احتفالات اليوم الوطني القطري الذي يجمع المواطنين والمقيمين على فرحة العيش بأمان. وأما الألوان، فهي براقة زاهية لا عتمة فيها ولا يظهر عليها اللون القاتم أو المنفر.
وبالطبع، فإن حي الميناء بالدوحة يتميّز بموقعه على الكورنيش، ويقع على بُعد 20 دقيقة سيراً على الأقدام من محطة مترو المتحف الوطني، وهو حي خلاب يتزيّن بشوارع مرصوفة بالحصى ومبانٍ مطلية بألوان الباستيل، حيث يمكنك مشاهدة السفن السياحية أثناء رسوها وزيارة سوق السمك الرائع، والتمتع بالجداريات الجاذبة.
ليست للزينة
في قطر، حيث تمتزج الحداثة بالتراث، باتت اللوحات الجدارية جزءاً مهماً من المشهد الفني في المدينة. هذه الأعمال الفنية لم تعد مجرد زينة للمباني والجدران، بل أصبحت وسيلة للتعبير عن الهوية القطرية وحفظ تاريخها، حيث من الدوحة إلى مناطق أخرى في البلاد، تشهد اللوحات الجدارية تزايداً ملحوظاً في السنوات الأخيرة.
تتنوع هذه اللوحات من حيث الأسلوب والمحتوى، حيث تجمع بين الفن المعاصر والتقاليد العربية. بعض هذه اللوحات تتناول مشاهد من الحياة اليومية في قطر، مثل الأسواق التقليدية أو الرياضات القطرية مثل الفروسية وسباق الهجن. بينما تركز لوحات أخرى على معالم قطر المعمارية الحديثة، مثل برج «الدوحة» أو متاحفها الحديثة.
أحد أبرز ملامح هذه الظاهرة كان مشروع «جداريات الدوحة»، الذي انطلق عام 2020، ويهدف إلى تحويل بعض المناطق إلى صالات عرض فنية في الهواء الطلق. هذا المشروع جاء في إطار التزام قطر بتطوير مشهدها الثقافي ودعمه، خاصة قبيل استضافتها لبطولة كأس العالم 2022. اللوحات الجدارية التي أنجزها فنانون محليون ودوليون تزين الشوارع والأزقة، وتضيف لمسة فنية للمناطق الحضرية.
مشاركة محلية
وفي هذا السياق، تبرز الفنانة القطرية «هيا المالكي»، التي قدمت العديد من الأعمال الفنية الجدارية التي تتناول موضوعات بيئية واجتماعية. أعمالها ليست مجرد تزيين للجدران، بل تمثل دعوة للتفكير والتفاعل مع قضايا البيئة والتغير المناخي. وتعد هذه اللوحات مثالاً على كيفية استخدام الفن لتسليط الضوء على القضايا الراهنة، مما يعكس الدور المتنامي للفن في بناء الوعي الاجتماعي.