في الحضارات المختلفة، امتلكت مخيّلة البشر قدرة مذهلة على صُنع شخصيات وكائنات وأحداث لا تمت إلى الواقع بصلة، لكنها تعالج بجوانبها الإنسانية قضايا اجتماعية، وترمز إلى تفاصيل معقدة في الحياة.
واتسعت ذاكرة المجتمع الإماراتي منذ القِدم لأمثال تلك الأساطير التي تمنح الثقافة المحلية سمة مميزة وطابعاً ذا نكهة فريدة، ووفرت للمبدعين عناصر فنية تشع بدلالات مكثفة، وتربط المتلقي بتراثه الغني.
وفي دبي، اكتسبت هذه القيمة الفكرية حضوراً باهراً من خلال معارض تشكيلية استطاعت أن توظف الأساطير وتستعملها ببراعة عالية، منها معرض «أساطير أوروم» للفنانين عبدالرحيم سالم وعائشة حداد الذي احتفت به ندوة الثقافة والعلوم أخيراً، حيث كان لـ«البيان» لقاء معهما حول دور الفن في استلهام الأساطير المحلية وتوظيف قصص الحضارات.
بُعد أعمق
وأكد الفنان التشكيلي الإماراتي عبدالرحيم سالم، لـ«البيان»، أهمية الجانب الأسطوري في التراث المحلي لدى الفنان بما يتضمنه من عوامل انتماء إلى الثقافة الأصيلة، مشيراً إلى أن الأساطير تشكّل قاعدة راسخة ينطلق منها المبدع في عمله، وتضيف إلى الفكرة التي يتبنّاها بُعداً أعمق، وتقدِّم للأجيال حالة اجتماعية تضيء على زوايا واقعية.
وأوضح سالم أنه سعى، من خلال أعماله الفنية في معرض «أساطير أوروم»، إلى تحقيق نوع من التقارب في توظيف الأسطورة داخل العمل الفني، بالتركيز على ماهية الإنسان والبحث عن سماته في مدلولات الأساطير، لافتاً إلى إمكانية تجاور الأساطير ذات الثقافات المختلفة وتفاعلها في نسيج عمل فني واحد، بشرط وجود رابط مشترك يجمعها دون تعارض يؤدي إلى التصادم.
وذكر أنه استخدم في أعمال فنية سابقة أسطورة محلية تنتمي إلى التراث الإماراتي، وتتجسّد في شخصية تدعى «مهيرة» كانت تعيش في الشارقة، وتعبّر عن قصة معاناة امرأة مسحورة انقلبت حياتها رأساً على عقب بسبب موقف عابر، موضحاً أنه طوّر طريقة توظيف هذا الرمز الأسطوري من مرحلة تجسيدية إلى لونية، انتهاءً بالتجريد عبر أساليب طرح متنوعة.
قوة تعبيرية
من جانبها، أكدت الفنانة التشكيلية المصرية عائشة حداد أن الأساطير المحلية شكَّلت مصدر إلهام للفنانين في الإمارات، وكان لها دور رئيس في مسيرتهم الإبداعية، مشيرةً إلى أن لدى الفنانين المتأثرين بالتراث مساراً مميزاً في إبداعاتهم يتسم بالأصالة والقوة التعبيرية، على عكس من انغمسوا في الثقافات الأخرى دون أن تكون لهم عناية بهويتهم الفريدة.
عناصر فنية
وأوضحت عائشة أن ثمة عناصر فنية مشتركة تجمع كثيراً من الأساطير وتوحّدها على المستوى الإنساني، وإنْ تباينت دلالاتها وفقاً لثقافة كل شعب، لافتةً إلى أن صورة الشمس أو القط الأسود وغيرهما من الرموز تحمل مفاهيم أسطورية لدى مجتمعات متعددة، وأن التراث العمراني الذي سعت إلى توظيفه في أحد أعمالها يمكن قراءته تشكيلياً من وجهات مختلفة؛ ليدل على مزيج فكري تتحد فيه الحضارات.
وذكرت أن الاهتمام بالأساطير التراثية كان الدافع لها وللفنان عبد الرحيم سالم إلى التعاون في معرض فني بعنوان أساطير «أوروم»، التي تعني باللغة النوبية القديمة: اللون الأسود، وأن الفعالية اشتملت على عناصر فنية تشترك فيها حضارات العصر الحجري الوسيط حتى ما قبل الستينيات في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، منوهةً بتزايد اهتمام جمهور الفن بالتراث وما يحمله من حكايات وأساطير، وذلك بفضل ما تقدّمه دبي من مبادرات ثقافية تدعم هذا التوجّه.