محاكاة التاريخ.. بين سندان الحقيقة ومطرقة الخيال


فاطمة الصايغ
فاطمة الصايغ

أسماء الزرعوني
أسماء الزرعوني
جمال مطر
جمال مطر

تثير أحداث التاريخ المشوِّقة شهية المبدع للتفاعل معه، وتصنع منجزاته وصراعاته أفقاً يُلهم المشتغلين بالأدب والمسرح والدراما والسينما، وهنا تولد قصة جديدة شكَّلت قوامها حقائق التاريخ وهواجس الخيال ضمن سبيكة فنية صهرت مكوناتها رؤية بديعة، فينشأ الجدل الذي أتاحت «البيان» مجال نقاشه حول مدى أحقية المبدع في محاكاة تلك الأحداث الحقيقية أو التصرُّف في بعض ملامحها.

خيال المؤرخ

وأوضحت الدكتورة فاطمة الصايغ، أستاذة التاريخ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الإمارات، لـ«البيان»، أن من حق المبدع، في الأعمال الأدبية أو الدرامية والسينمائية، أن يتصرَّف بصورة يسيرة في سرد الأحداث التاريخية، لافتة إلى أن المؤرخ أيضاً عندما يتناول الأحداث التاريخية يضيف إليها كثيراً من خياله، وهو ما يُصطلح عليه بـ«خيال المؤرخ».

وأكدت أن استعمال الخيال ضروري في هذا الجانب لتحويل التاريخ إلى ما يشبه القصة من خلال تحليل مجريات الأحداث وربط بعضها ببعض والوصول بها إلى الحبكة التاريخية التي تقابل الحبكة الفنية في الأعمال الإبداعية، مشيرة إلى استحالة التعامل مع التاريخ بعيداً عن هذا التصوّر؛ لأن المؤرخ والمبدع لم يعاصرا الأحداث التي جرت منذ مئات السنين.

ولفتت إلى أن العملين التاريخي والإبداعي قد يتشابهان أحياناً، إلا أن المؤرخ مقيّد بمراعاة الدقة والأمانة العلمية في استحضار الحدث واستخدام المنهج البحثي، في حين أن المبدع من شأنه أن يطلق العنان لخياله حتى يرسم الصورة التي يطمح إليها، موضحة أن قيود العمل التاريخي لها حدود، لكنَّ ذلك لا يسمح بالتصرُّف في الحدث كما يتصرَّف القاص.

وذكرت أنها راجعت أحد المسلسلات التي تتناول قصة القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، ولاحظت وجود تفاصيل كثيرة عن حياته لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وإنما هي من وحي خيال المؤلف، مؤكدةً أن هذا التصرُّف يُعَدُّ أمراً طبيعياً، وأن 50 في المئة من العمل الدرامي التاريخي هي من نسج خيال المبدع.

حرية واعتبارات

من جانبها، أكدت الأديبة الإماراتية أسماء الزرعوني أن على المبدعين، وخاصة في مجال القصة والرواية، أن يقدِّموا أعمالاً تخدم تاريخ وطنهم المشرِّف الذي عاشوا فيه، مشيرة إلى أن المبدع يتمتع بحرية كبيرة في استخدام الأحداث التاريخية لصناعة الحبكة الفنية، ولكن مع بعض الاعتبارات.

وقالت: «للمبدع، عند تضمين أحداث تاريخية في العمل الفني، الحق في تعديل التفاصيل، أو حتى تصور أحداث تاريخية بشكل مغاير لتناسب رؤيته الفنية، لكن هذا يأتي مع مسؤولية تجاه الدقة التاريخية في بعض الأحيان؛ حتى لا ينقل التاريخ بصورة مخلّة تخالف الحقيقة، خاصة إذا كان الهدف من العمل تقديم فكرة أو رسالة تاريخية دقيقة».

وأضافت: «العديد من الأعمال الفنية مثل الأفلام، وكذلك الروايات التاريخية، قد تدمج أحداثاً حقيقية مع خيال، وهذا يُعتبر أمراً شائعاً في الفن، لكن إذا كان العمل يعتمد بصورة كبيرة على الواقعية التاريخية، يُتوقع حينها من المبدع أن يكون أكثر التزاماً بالتفاصيل».

ولفتت إلى أن المبدع يستطيع أن يحوِّل التاريخ إلى قصة وينقل القارئ بين المتعة والحقيقة والخيال، في حين أن المؤرخ ينقل التاريخ كما هو بلا خيال أو اختلاق شخصيات بطريقة درامية، موضحة أن هناك محاذير كثيرة في التعامل مع التاريخ، أهمها استعمال خيال الكاتب بغرض الإثارة على حساب الدقة التاريخية، وهو الأمر الذي يُفقد القرَّاء الثقة بالعمل الإبداعي وصاحبه.

لعب بالأحداث

من جهته، أكد المخرج والمؤلف المسرحي الإماراتي جمال مطر أن للمبدع مطلق الحرية في اللعب بالأحداث التاريخية ومحاولة محاكاتها، مشيراً إلى أنه ليس مطلوباً منه أن يعيد كتابة التاريخ، وإنما هو مطالب بأن يصنع منه حكايته وفق هواه الإبداعي، وأن يستفيد من الأحداث التاريخية حسب رؤيته.

وقال مطر: «إن ما يقوم به المبدع هو أن يتناول حكاية تاريخية مثلاً ويعيد صياغتها كيفما شاء، وأن يُسقط قصته في التاريخ بما يتماشى مع رؤيته فيها»، مؤكداً أن هذا العمل هو الدور الحقيقي للمبدع، لا سيما في الأعمال الروائية.

ورأى أن اكتفاء المبدع بسرد التاريخ كما هو يوقعه لا محالة في فخ التقليدية ويحوّله إلى مؤرخ، وحينها لن يتمكن من تقديم الجديد في عمله الإبداعي، وأنه إذا كان عمل المبدع على هذا النحو فإن الأفضل العودة إلى القصة الحقيقية؛ لأننا لسنا بحاجة إلى سرد التاريخ في منجز أدبي، لافتاً إلى أن التاريخ جامد بينما الإبداع يتسم بالحركة والجريان، وأن الإبداع يتوقف عندما تتوقف حواسنا وتقبل الجاهز.