حينما كتب المؤلف المسرحي، حمد الظنحاني، عن «العزلة» خلال عروض اليوم الثالث من مهرجان دبي لمسرح الشباب، صنع مسرحاً لا يجيد التعبير عنه سوى كبار الممثلين المسرحيين.
وفي متاهات العزلة وغياهب السريالية ابتكر المخرج إبراهيم القحومي فضاءات استثنائية، تنير العقول وزاويا الإدراك الحقيقي لقيمة الهوية المسرحية الإماراتية، التي تحتفي بطاقاتها الإبداعية المتمثلة في حضور احترافي للكبار الـ 4؛ الممثل أيمن الخديم، والممثل ذياب ناصر، إلى جانب الممثل عادل سبيت، والممثل أحمد بوصيم، الذين قدموا في عزلتهم الاستثنائية التألق والإبهار، وحواراً متصاعد الأحداث للبحث عن الذات والأنا والآخر، لتقديم حكاية تتجاوز حدود الواقع.
وضمن مسارات الرمزية والسريالية كمنهج بناء مكتمل الأركان برزت «عزلة» بالسينوغرافيا، التي ابتكرها المخرج إبراهيم القحومي، ولعبت دوراً حيوياً في تعزيز الأجواء السريالية، حيث تسهم الإضاءة والديكور في خلق مشاهد حالمة وغامضة.
تصميم المسرح بعناصره المختلفة يعكس التباين بين الثبات والتحول، ما أضفي بعداً بصرياً عزز من عمق النص. إلى جانب استخدام الرمزية بشكل مكثف، عبر الأزياء والأماكن غير المحددة، والموسيقى التي تصاحب الحوارات. الجدير بالذكر أن ثنائية الظنحاني القحومي حصدت خلال هذا العمل ثمرات تجارب سابقة على خشبة مسرح مهرجان دبي لمسرح الشباب عبر مسرحيات نالت أيضاً استحساناً من الجمهور والنقاد، وأبرزها مسرحية «إبرة» لموسم 2023، وانفردت بتجسيدها للتمثيل الإيمائي والحركات الإيحائية «البانتوميم».
ثلاثية العزلة
في رحلة «العزلة» تتراقص الظلال على إيقاع الصمت، وتتفتح الستارة عن مشهد من عالم آخر، عالم يتجاوز الحدود الزمانية والمكانية. هنا، في هذه العزلة السرمدية، تتجلى النفس الإنسانية بكل تناقضاتها وأحلامها، في مكان يبدو وكأنه منفى للروح، ووجهة للباحثين عن الحقيقة في فضاء كالسديم، حيث تتوه المعالم، وتذوب الحدود بين الواقع والخيال.
أمامنا ثلاثة أرواح تجسدت في شخصيات الساحر، والمهرج، والجوكر، كل منهم يحمل عبء الأسئلة الوجودية التي تثقل كاهله. إنهم ثلاثي من العزلة، ينسجون بخيوط أفكارهم نسيجاً من التأمل والتساؤل، الجوكر، بصوته العميق الذي ينسل كنسيم الليل، يتحدث عن الأفكار التي لا يمكن أن ترى النور دون وعي.
بقعة أخرى
يلتقي الهاربون من صخب العالم الخارجي في دائرة الضوء، باحثين عن السكينة في عالمهم الداخلي، وبقعة أخرى يجلس «الساحر» الممثل أيمن الخديم بحيله وألعابه، يحاول أن يسيطر على واقعه، مستخدماً الكلمات كتعويذة تحميه من ضجيج العالم.
إنه في عزلة اختارها لنفسه، حيث يمكن للأفكار أن تتنفس بحرية بعيداً عن الفوضى. و«المهرج» للممثل عادل سبيت، الذي يسعى إلى تنظيم الفوضى من حوله، يرى في المكان الجديد صديقاً وعالماً يحمل في طياته وعوداً لا تنتهي. ويحاول كسر هذا الصمت، بحثاً عن معنى جديد للحياة في الحديث والضجيج بشغفه للتواصل والسعي لفهم ذاته والآخرين، يقول: «أنا هنا هرباً من المتطفلين.. والمتسلقين.. وكل من يؤذي البشر».
يحاول المهرج كسر حاجز الصمت، الذي فرضه الساحر على نفسه، ويسعى لإيجاد معنى أعمق للحياة «أريد التحدث.. أريدك أن تضربني.. وإذا لا تقدر على ضربي فاشتمني»، فحين يظهر «الجوكر» الممثل ذياب ناصر كشخصية تبحث عن العزلة والهدوء بعيداً عن ضجيج العالم. قائلاً: «لا يمكن للفكرة أن ترى النور دون دراية بها.. ولا يمكنني أن أحقق شيئاً دون وجود عقول تفهم وتقبل وترفض».
وخلال حلقة الصراع الثلاثية تبرز في المسرحية شخصية «العامل» أحمد بوصيم المحايدة والهادئة، فهو يقوم بدور الخادم أو المساعد، لكنه في الواقع يمثل جزءاً أعمق من النفس البشرية. هو الذي يسعى للحفاظ على النظام والهدوء في المكان، محاولاً تلبية احتياجات الآخرين دون التدخل في شؤونهم الشخصية أو مشاركتهم أفكارهم، ويذكرهم كلما تعالت الأصوات فيما احتدّ النقاش «أصواتكم عالية... ولهذا المكان قوانين يجب أن تعرفوها جيداً.
بالحقيقة أنا أتجاهل الحديث مع أي شخص لكي لا أخترق القوانين»، وفى بنية النص يمثل العامل الصوت الداخلي ورمزية الضجيج، الذي تحاول الشخصيات الهروب منه، ويطرح أسئلة حول دور القوانين في حياة الأفراد في حوار مشتعل بين الأنا والآخر والذات قائلاً: «حتى وإن أخطأ أحدهم، لا تجهد نفسك في محاكمته. كلنا نخطئ».
نص شعري
ومن خلال النص الشعري للمسرحية يبرز الجمال في الألم، حيث يتصارع المهرج والساحر، ليكتشفا أن الألم يمكن أن يكون جميلاً حين يُشعرنا بوجودنا. إنها لحظة من الوحي تذكرنا بأن الألم ليس فقط ذكرى نتجاوزها، بل تجربة تعرفنا بذواتنا العميقة. أشبه بحلم يتردد صداه في أرجاء المسرح. الأصوات تتداخل مع الهمسات الخافتة، كأنها نغمات سيمفونية خفية، تعزفها الحياة ذاتها. كل حركة، كل كلمة، تحمل في طياتها معنى أعمق، كأنها جزء من رقصة أبدية.
يتصارع الجميع مع رغبة الحديث والصمت، مع شهوة الفوضى والنظام. إنهم في صراع دائم مع أنفسهم، مع تلك المساحات الخفية، التي تتشكل منها هويتهم. كل واحد منهم يعكس جزءاً من النفس البشرية، جزءاً من تلك الأسئلة التي لا إجابات لها، من تلك الأحلام التي لم تكتمل.
حديث الذات
في نهاية المطاف لا يبقى سوى الصمت، الذي يحمل في طياته كل الإجابات، وكل الأسئلة. إنه عزلة الأرواح، المكان الذي تلتقي فيه الحقيقة بالخيال، حيث تتجلى الذات في أبهى صورها، وحيث يمكن للإنسان أن يجد نفسه حقاً. ورغم الجمال الفني للمسرحية إلا أنها تطرح تحدياً للمشاهد في تتبع حبكتها السريالية ورموزها الكثيفة، لكن هذا التحدي هو ما يجعلها عملاً فنياً يستحق التأمل والبحث عن المعاني الدفينة فيه.
ختاماً «عزلة» ليست مجرد مسرحية، بل رحلة في أعماق النفس البشرية، تكشف عن تناقضاتها وآمالها في عالم مضطرب. إنها دعوة للصمت، وللحديث، وللبحث عن الذات في مواجهة العزلة والضجيج، لتكون لنا مرآة نرى فيها أنفسنا ونتأملها بعمق وشغف.