هزت أعمال العنف، التي اندلعت في منطقة الساحل السوري منذ الخميس الماضي، المشهد السياسي الهش في البلاد، ووضعت مستقبل السلم الأهلي على المحك.
هذه التطورات تبرز هشاشة الاستقرار بعد سقوط نظام بشار الأسد، إذ عادت المنطقة، التي كانت تُعد معقلاً تقليدياً للنظام السابق، إلى دائرة الصراع المفتوح عبر فلول النظام السابق، في ظل تداخل العوامل السياسية والطائفية والاجتماعية التي تراكمت على مدى سنوات.
الأرقام الأولية تشير إلى سقوط أكثر من ألف قتيل، بين مدنيين وعناصر أمنية ومسلحين موالين للنظام المخلوع، وفقاً لتقارير صادرة عن منظمات حقوقية وإعلامية.
وأفادت التقارير بوقوع عمليات تصفية ارتكبها مسلحون، ما قد يدخل البلاد مرحلة جديدة تذوب الخطوط الفاصلة بين الانتقام والتصفيات السياسية.
وحسب عدد من المحللين فإن ما يجري يعيد إلى الأذهان سيناريوهات ما بعد سقوط الأنظمة في دول أخرى، فيصبح الفراغ الأمني والانقسام المجتمعي مزيجاً يغذي الصراعات الداخلية.
ولا شك في أن هذه الحوادث المؤلمة ستترك جرحاً غائراً في جسد المجتمع السوري، الذي أنهكته سنوات الحرب الطويلة، وحطمته ديكتاتورية النظام السابق إلى درجة تجعل إعادة إعماره معقدة ومملوءة بالعوائق السياسية والاجتماعية.
ومع استمرار تصاعد التوتر، تتزايد المخاوف من انزلاق البلاد نحو سيناريو مشابه لما شهدته ليبيا، حيث أدى غياب التوافق وضعف المؤسسات إلى انهيار أمني طويل الأمد.
ولكن لا تزال هناك خيارات متسلسلة أمام السلطات الجديدة في دمشق للحيلولة من دون تكرار هذا السيناريو، وضمان استعادة الاستقرار التدريجي لسوريا.
الخيار الأول
يتمثل في التعامل بحزم مع التمرد المسلح الذي أعلنته فلول النظام السابق، ولكن مع ضرورة تجنب استهداف البيئة الاجتماعية المحيطة بهم، والتي قد تؤدي إلى إشعال فتيل صراعات جديدة.
وحصر المواجهة في الأهداف العسكرية والأمنية هو السبيل الوحيد لتجنب توسع النزاع إلى دائرة أوسع من العنف الطائفي أو العشائري.
الخيار الثاني
وهو الدعوة إلى مؤتمر وطني اجتماعي، يهدف إلى تشكيل لجان مصالحة محلية تعمل على تحييد المدنيين عن الصراعات المسلحة، وتوفير أرض لتجاوز المظالم التي خلّفتها سنوات الحرب والانقسامات.
وهذا المؤتمر يجب أن يكون ذا طبيعة توافقية، فتُشارك فيه المكونات السورية كافة، ومنها الفئات التي لم تكن جزءاً من العملية السياسية منذ سقوط النظام، ما يضمن تمثيلاً حقيقياً للمجتمع السوري بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة.
الخيار الثالث
ويتمثل في سد الطريق أمام التدخلات الخارجية عبر اتخاذ خطوات جادة في مجال العدالة الانتقالية، تشمل محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والتجاوزات ضد المدنيين، سواء في العمليات الأخيرة أو في فترات سابقة.
إن تحقيق العدالة ليس مطلباً أخلاقياً فحسب، وإنما أيضاً وسيلة عملية لقطع الطريق أمام الأطراف الخارجية التي قد تستغل هذه الأحداث للتدخل أو تأجيج الصراع، تحت ذريعة حماية فئات معينة أو تصحيح مسارات سياسية.
الخيار الرابع
وهو الأهم، ويتمثل في العمل على بناء توافق سياسي أوسع، يستند إلى قاعدة مناطقية تشمل الأطراف كافة، ومن ذلك القوى التي تم استبعادها من الحوار الوطني ولجنة الدستور سابقاً، إذ إن أي محاولة لإقصاء أطراف معينة من العملية السياسية ستؤدي إلى ولادة أزمات جديدة.
إن تجاوز سوريا هذه المرحلة الصعبة يتطلب نهجاً يتجاوز الحلول الأمنية، ليشمل إعادة بناء الثقة بين مختلف المكونات، وخلق آليات سياسية تضمن عدم العودة إلى دوامة العنف.
فالتاريخ يوضح أن الانتقام لا يؤدي إلى استقرار، وأن إعادة بناء المجتمعات المنهارة لا تتم عبر السلاح فقط، وإنما أيضاً عبر ترسيخ العدالة، وفتح المجال أمام المصالحة الوطنية، واستعادة ثقة الناس بالدولة ومؤسساتها. سوريا اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن تتبنى مساراً عقلانياً يضمن مستقبلاً مستقراً، وإما الغرق في إعادة إنتاج العنف بأشكال جديدة.