نورا الأمير ومرفت عبدالحميد
تهدد «تجارة رسائل الدراسات العليا» عبر مواقع التواصل الاجتماعي نزاهة البحث العلمي وجودته، حيث دعا متخصصون إلى ضرورة تكاتف الجهات الأكاديمية والقانونية والمجتمعية للحد مما أسموه «تجار العلم»، وذلك عقب رواج بعض الصفحات على تلك المواقع التي تسوق من خلالها لخدمات إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه نظير مبالغ مالية تصل إلى 50 ألف درهم، ما يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية بشأن تأثير هذه الخدمات في مصداقية الشهادات الأكاديمية وجودة الأبحاث العلمية.
يعتبر خبراء التربية والبحث العلمي «تجارة رسائل الدراسات العليا» ظاهرة تقوّض القيم العلمية وتفتقر إلى أدنى مقومات المصداقية؛ إذ تمنح شهادات وهمية بلا جهد أو استحقاق حقيقي، ويرون أن انتشار مثل هذه الإعلانات لا ينعكس سلباً على النزاهة الأكاديمية فحسب، بل يهدّد مستوى الطلبة، ويؤثر في قدرتهم على إنجاز أعمالهم الأصلية، في حين يؤكد مراقبون أن هذه الظاهرة إذا تُركت بلا رادع، فإنها ستهدد مكانة التعليم العالي وتفرغ الشهادات من محتواها العلمي، ليصبح الخاسر الأكبر هو المجتمع الذي يعوّل على كفاءات حقيقية لنهضته وتقدمه.
وتؤكد وزارة التعليم العالي أنها تتخذ إجراءات قانونية صارمة لحجب هذه المواقع أو إيقاف خدماتها، في حين عرض أكاديميون ومختصون حلولاً متعددة لمكافحة هذه الظاهرة وحماية مصداقية البحث العلمي في الجامعات.
وتعلن بعض المواقع المرصودة عن خدماتها، مستخدمة وسائل جذب مختلفة، مثل: «اطلب بحثك العلمي واحصل على نتائج استثنائية من نخبة من الدكاترة والمختصين في الخدمات الجامعية والعلمية»، أو «كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه لجميع التخصصات وكافة أنواع الأبحاث»، أو «مراجعة وتدقيق وكتابة رسائل الماجستير والدكتوراه دون الاستعانة بـ chatgpt»، بينما يعمل البعض الآخر بشكل سري تجنباً للمساءلة القانونية.
«البيان» تواصلت مع إحدى هذه الجهات عبر «الواتس آب»، حيث كان سعر رسالة الماجستير يتراوح بين 9 آلاف و20 ألف درهم، فيما يصل سعر رسالة الدكتوراه إلى 50 ألف درهم بحسب اللغة وعدد الصفحات، والمطلوب فقط هو عنوان موضوع الرسالة وعدد الصفحات، ليتولى القائمون على الموقع إعداد الرسالة من الألف إلى الياء.
وتوفر هذه المواقع خدمات متنوعة للدارسين تتراوح بين إعداد خطة البحث، وكتابة الإطار النظري، وتحليل البيانات باستخدام برامج متخصصة، وكتابة الرسائل بالكامل أو أجزاء منها، وإعداد العروض التقديمية والمناقشات.
مكانة تنافسية
وأكدت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أنها تولي أهمية قصوى لتعزيز النزاهة الأكاديمية واحترام المبادئ الأخلاقية وحقوق الملكية الفكرية في البحث العلمي، انطلاقاً من إيمانها الراسخ بأثر ذلك في تحسين السمعة والمكانة التنافسية لمؤسسات التعليم العالي في الدولة.
وأضافت أنها تحرص على تشجيع مؤسسات التعليم العالي على تطبيق معايير وإجراءات فعّالة تُمكّنها من التدقيق الشامل على الدراسات والأبحاث العلمية التي يُعدّها الطلبة، كما تُجري تدقيقاً دورياً على هذه الإجراءات والمعايير من خلال آليات الرقابة المستمرة ومتابعة الأداء لضمان جودتها وفعاليتها.
كما أكدت الوزارة دور مؤسسات التعليم العالي في توعية الطلبة بمبادئ النزاهة الأكاديمية واحترام حقوق الملكية الفكرية، وحثهم على الالتزام بها في جميع مراحل البحث العلمي. وفيما يتعلق بخدمات رسائل الدراسات العليا التي قد تتضمن المراجعة اللغوية والتصحيح الإملائي، فهي لا تتعارض في حد ذاتها مع مبادئ النزاهة الأكاديمية وحقوق الملكية الفكرية، طالما اقتصرت على الجوانب اللغوية ولم تتجاوز ذلك إلى صلب المحتوى العلمي للبحث.
وأوضحت أنه «في حال رصد أي مخالفات من هذا القبيل، فإنه يتم التنسيق والتعاون الفوري مع السلطات المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، بما في ذلك إيقاف هذه الخدمات أو حجب المواقع الإلكترونية التي تقدمها، وفقاً للصلاحيات القانونية المتاحة»، مؤكدة التزامها الراسخ بحماية جودة التعليم العالي في الدولة وضمان نزاهة البحث العلمي، ومواصلة جهودها في مكافحة أي ممارسات تخالف هذه المبادئ.
مبررات
وحول أسباب انتشار الظاهرة، ذكر عدد من الدارسين أن العامل الزمني، والمسؤوليات الواقعة على عاتق طلبة الماجستير والدكتوراه بسبب ضغط العمل أو الدراسة، فضلاً عن المسؤوليات الاجتماعية والأسرية الواقعة، إضافة إلى نقص الإشراف الأكاديمي الفعال في الجامعات، كلها عوامل قد تدفع الطلبة للبحث عن حلول سريعة.
في حين أوضح أكاديميون أن السبب الرئيس يعود إلى ضعف مهارات البحث العلمي لدى الباحثين الذين يفتقرون إلى المهارات اللازمة لإعداد الرسائل بشكل احترافي، فضلاً عن الإغراءات التسويقية التي تستخدمها هذه المواقع والاستسهال.
عواقب وخيمة
وأكد الأكاديميون أن اللجوء إلى مواقع إعداد الرسائل العلمية قد يبدو حلاً سهلاً، إلا أن عواقبه وخيمة وطويلة الأمد تهدد نزاهة البحث العلمي ومصداقية المؤسسات الأكاديمية؛ لذا يتطلب الأمر تكاتف الجهود من الجامعات والباحثين للتصدي لهذه الظاهرة، وتعزيز بيئة أكاديمية قائمة على الأخلاق والعمل الجاد، واقترحوا حلولاً للحد من الظاهرة، منها تعزيز الدعم الأكاديمي لطلبة الدراسات العليا، ورفع الوعي بأهمية النزاهة الأكاديمية، وتغليظ العقوبات على من يثبت تورطهم في التعامل مع هذه المواقع، وتطوير المهارات البحثية لدى الطلبة لتحسين قدراتهم، وتفعيل القوانين الرادعة، وتطبيق برامج كشف الانتحال.
غش وانتحال
ويرى الدكتور خالد المري، عميد البحوث ورئيس قطاع البحوث والابتكار والمشاريع الخاصة بالجامعة البريطانية في دبي، أن هذه الممارسات تقوض مبادئ الأمانة الأكاديمية، وتشجع على الغش والانتحال، ما ينعكس سلباً على سمعة الباحثين والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع العلمي كله.
وقال: «يجب على الجامعات تحسين أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على رصد هذه الممارسات بشكل أكثر دقة وفاعلية»، مشيراً إلى أن الجامعة البريطانية بدبي تعمل باستمرار على توعية الطلبة بأهمية النزاهة الأكاديمية من خلال ورش ودورات تدريبية، وتسعى لتقديم الدعم الأكاديمي والنفسي للباحثين، بما يساعدهم في التغلب على التحديات والضغوط التي قد تدفعهم للجوء لمثل هذه الخدمات، لضمان بيئة أكاديمية تسودها النزاهة والمصداقية وتسهم في تقدم العلم وخدمة المجتمع، مؤكداً أن اللجوء لهذه المواقع يؤدي إلى تراجع الابتكار، وإنتاج أبحاث مكررة، ويضعف مهارات البحث الأساسية، كما يؤثر سلباً في سوق العمل.
مصداقية ضائعة
«هذا السلوك يؤدي إلى تدني أخلاقيات البحث العلمي».. هكذا يرى الدكتور عيسى البستكي، رئيس جامعة دبي، مؤكداً أن الرسائل البحثية تفقد مصداقيتها وجودتها وتصبح مجرد منتج تجاري عوضاً عن أن تصبح جهداً فكرياً أصيلاً يعبر عن إبداع الباحث الذي يستخدم الأسلوب العلمي للوصول إلى النتائج الواقعية المبنية على التجربة والتحليل والتطبيق العملي.
وأضاف الدكتور البستكي أن الرسائل المعدة بشكل تجاري غالباً ما تكون سطحية ولا تضيف قيمة حقيقية للمعرفة الإنسانية، ما ينعكس على سمعة الجامعات والمؤسسات الأكاديمية التي تمنح درجات علمية بناءً على هذه الأبحاث الركيكة.
وأوضح أن هذه التحديات دفعت الجامعات لاتخاذ إجراءات صارمة للحد منها، مثل اعتماد أنظمة للكشف عن الانتحال العلمي، مثل برامج Turnitin، وغيرها من البرامج التي تكشف زيف إجراء البحث العلمي وعدم نزاهته ومنهجيته ومصداقية نتائجه، كما تلزم الجامعات الباحثين بإرفاق تعهدات خطية تؤكد إعدادهم لأبحاثهم بأنفسهم.
وأضاف أن بعض الجامعات تعتمد أيضاً مقابلات شفهية والعرض العلمي مع الباحثين لمناقشة تفاصيل أبحاثهم ورسائلهم العلمية للتأكد من استيعابهم الكامل لمحتوى أبحاثهم، وهو ما يساعد على كشف أي تضليل أو اعتماد على جهات خارجية.
وأكد أهمية تعزيز الدعم الأكاديمي للباحثين من خلال توفير مشرفين أكْفاء ومصادر تعليمية كافية لمساعدتهم على تجاوز التحديات الأكاديمية، وإنشاء مراكز متخصصة تقدم استشارات أكاديمية للباحثين، بما يساعدهم على تحسين جودة أبحاثهم دون الحاجة إلى اللجوء لمثل هذه المواقع.
ونوه البستكي بضرورة تشديد العقوبات على الباحثين الذين يثبت تورطهم في تقديم أبحاث معدة من جهات خارجية، كما يجب ملاحقة هذه المواقع قانونياً لوقف نشاطها في حال ثبت انتهاكها لحقوق النزاهة الأكاديمية.
3 خطوات
من جهته أكد الأستاذ الدكتور محمد أحمد عبدالرحمن، مدير جامعة الوصل، أن الاعتماد على هذه المواقع قد يؤدي إلى إنتاج أبحاث غير أصلية، وذات جودة منخفضة.
وحول الخطوات التي تتخذها الجامعات للحد من هذه الظاهرة، أوضح أنها تشمل 3 إجراءات، هي: استخدام برامج متخصصة للكشف عن الانتحال لفحص الرسائل العلمية والتأكد من عدم وجود سرقة أدبية، وتعزيز التعليم حول الأخلاقيات الأكاديمية، وأخيراً تقديم الدعم الأكاديمي عبر توفير موارد إضافية للطلبة، مثل الإرشاد الأكاديمي والمساعدة في كتابة الأبحاث.
وحض الدكتور عبدالرحمن على تعزيز وعي الطلبة بمخاطر اللجوء لهذه الخدمات، وأهمية العمل الجاد، لتبادل الأفكار والمساعدة في تطوير مهارات البحث، إضافة إلى إجراء تقييم شامل للأبحاث من قبل لجان أكاديمية للتأكد من جودتها وأصالتها.
وشدد على الدور المهم الذي تؤديه الأسرة في تعليم الأبناء أهمية النزاهة في البحث العلمي من خلال توفير نموذج القدوة الصالحة، إذ عندما يرى الأبناء أولياء أمورهم يتصرفون بنزاهة ويحرصون على الالتزام بالقيم الأخلاقية في حياتهم اليومية، فإنهم يميلون إلى تقليد هذه السلوكيات.
تأثير سلبي
الدكتور سيد بخيت، أستاذ الإعلام بجامعة زايد، أكد خطورة هذه الظاهر، «التي تؤثر في قطاعات متعددة، منها مستقبل الأجيال القادمة التي قد تتحصل على شهادات جامعية مزيفة وتلتحق بسوق العمل دون دراية أو معرفة حقيقية أو مهارات ضرورية، فيمتد التأثير السلبي إلى المجتمع»، لافتاً إلى الضرر الذي تلحقه أيضاً بالمنظومة التعليمية وتقليص دور المعلم وزيادة حالات الانتحال والسرقات الأكاديمية، وهو أمر يمس صميم النزاهة العلمية، ناهيك عن النتائج السلبية، كإعطاء الفرصة للبعض لتولي مناصب مهمة بحكم حصوله على ألقاب علمية لم يبذل جهداً في الحصول عليها، وهو أمر يخلق نخباً وقيادات وهمية.
وحذر من خلق جيل هش سطحي غير جاد لا يكتسب العلم بالجهد، بل بمقابل مالي. وقد يؤدي إلى إحباط الطلبة الجادين ويخلق فجوات مبنية على القدرة المادية وليس التفوق، مشدداً على مراقبة مثل هذه الإعلانات وإغلاق المراكز الخاصة بها، ومحاسبة القائمين عليها، بل ومحاسبة الحالات التي استفادت منها من دون وجه حق.
ظاهرة شائعة
أما الدكتورة أمل إبراهيم، مدير مكتب رابطة الخريجين بجامعة الشارقة، فأكدت أن هذه الظاهرة أصبحت شائعة بين الطلاب، مشددة على أهمية توظيف التكنولوجيا الحديثة في كشف هذه السلوكيات، والالتزام بالاقتباس العلمي الصحيح، معتبرة أن عدم توثيق المصادر يعد سرقة علمية.
وقالت: «عملية الاقتباس الصحيحة هي جزء من المنهج الأكاديمي الذي يجب أن يتعلمه الطلاب في مراحل دراستهم، وخاصة في البكالوريوس. أما بالنسبة لطلبة الماجستير والدكتوراه، فإن اللجوء لهذه الطرق يعتبر مشكلة خطيرة؛ لأن الأبحاث التي تعتمد على الآخرين دون تقديم إضافة علمية تعتبر تكراراً لما هو موجود، ولا تسهم في إثراء العلم».
وأضافت: «غش الطلبة في مرحلة الماجستير والدكتوراه يؤثر سلباً في تحصيلهم العلمي، كما يُفقد المجتمع والاقتصاد الفائدة المتوقعة من الأبحاث؛ إذ يُفترض أن تكون الأبحاث الأصلية إضافة جديدة للعلم».
وأكدت ضرورة تشديد العقوبات على الطلبة المتورطين في هذه الأفعال، تتجاوز حرمانهم من الحصول على الشهادة إلى منعهم من الدراسة في أي جامعة وطنية.
انتهاك للأخلاقيات
من ناحيته، أكد علي مصبح، محامي ومستشار قانوني أن شراء البحث أو الرسالة العلمية من جهات تسويقية يعد انتهاكاً للأخلاقيات والمعايير العلمية. وقال: «إن المؤسسات التعليمية تفرض سياسات صارمة ضد الغش والتدليس في الأعمال الأكاديمية تصل إلى الفصل من المؤسسة التعليمية وسحب الشهادة الممنوحة، لاعتبارها نوعاً من الغش والاحتيال، ويجوز لصاحب الرسالة الحقيقي فتح بلاغ على المؤسسة وعلى الشخص الذي انتحل صفة صاحب الرسالة الحقيقي ببلاغ ضدهم، مما يعرض الطالب للمساءلة القانونية بتهمة الاحتيال والتزوير».
وأضاف: طبقاً للمادة 399 من قانون العقوبات الاتحادي، يعاقب بالحبس أو بالغرامة كل من توصل إلى الاستيلاء لنفسه أو لغيره على مال منقول أو سند أو توقيع هذا السند أو إلى إلغائه أو إتلافه أو تعديله، وذلك بالاستعانة بطريقة احتيالية أو باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة متى كان من شأن ذلك خداع المجني عليه وحمله على التسليم، ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من قام بالتصرف في عقار أو منقول يعلم أنه غير مملوك له أو ليس له حق التصرف فيه أو تصرف في شيء من ذلك مع علمه بسبق تصرفه فيه أو التعاقد عليه وكان من شأن ذلك الإضرار بغيره.