«أعتقد أني من جيل المحظوظين، ممن أتاحت لهم الأقدار أن يكونوا شهوداً على العصر، إذ رأوا كيف كنا وكيف أصبحنا.
ليس هذا فحسب، بل إن عملي في السياسة والتجارة معاً، وما أسفر عنه ذلك من احتكاكي المباشر بالمغفور لهما بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما، قد رسّخ إيماني بأن الأقدار هيأت لأبناء أرضنا الطيبة، أن يخرجوا من الفقر إلى الرخاء، ليس بالثروة النفطية، وإنما بعزيمة وإخلاص رجلين كبيرين، قادا سفينة التحولات التاريخية الكبرى بكفاءة واقتدار».
هكذا يستهل سعيد محمد الكندي، رئيس المجلس الوطني الاتحادي سابقاً، ورجل الأعمال المرموق، حديثه حول ذكرياته عن نشأة دولة الإمارات.
يقول، خرجت فكرة دولة الاتحاد إلى النور عندما تلاقت رؤية وإرادة الراحلين الكبيرين، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأخيه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، إذ عقد المغفور لهما بإذن الله، اجتماعات في السميح، لبحث إعلان الاتحاد الثنائي بين إمارتي دبي وأبوظبي في فبراير 1968.
كان المعروف عن الرجلين أنهما يعملان بصمت ودأب، وحين شرعا يخططان لإعلان دولة الاتحاد، استندا إلى حقائق التاريخ والجغرافيا، فقبل ذلك وتحديداً في عام 1905 كان الشيخ زايد الأول قد دعا حكام الإمارات لاجتماع لحل النزاعات الحدودية، ولم تنقطع العلاقات بين الأشقاء أبداً، وصولاً إلى تشكيل مجلس الإمارات المتصالحة عام 1952، مما يعني أن إعلان الدولة عام 1971 كان نتيجة منطقية لمقدمات راسخة وقوية.
وبعد قيام دولة الإمارات، تولى الشيخ راشد منصب نائب رئيس الدولة، كما عُهدت إليه رئاسة مجلس الوزراء، فإذا به لا يدخر جهداً في تعزيز الدولة الناشئة، وبالتوازي شهدت دبي في بداية السبعينيات نهضة عمرانية وحضرية واسعة النطاق، كما شجع التجار وأخذ مبكراً بمبدأ الشورى، وله في هذا الصدد مقولة مأثورة، «إن الشورى والحرية هما أساس كل عمل ديمقراطي، وهما من أسس تراثنا وعقيدتنا».
يقول الكندي، «التحقت بالمجلس الوطني اعتباراً من عام 1992 حتى 2005، وكنت عضواً حتى 2002 ثم رئيساً لمدة 3 أعوام، ولم يقدر لي التعامل من منطلق منصبي مع المغفور له بإذن الله الشيخ راشد، لأنه، طيب الله ثراه، كان انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل عملي بالمجلس بعامين. ولكن هذا لا يعني أنني لم أعرف الرجل الكبير، فقد كانت سيرته العطرة تتردد بإكبارٍ في بيتنا، إذ كان أبي يشيد دائماً بعقليته الفذة ومروءته الإنسانية ووقوفه إلى جانب رجال الأعمال».
لقد تبوأت دبي في عهد الشيخ راشد مكانتها كقبلة للتجارة العالمية، وذلك بفضل بعد نظر المغفور له، حيث كان يعد التجارة عصب النشاط الاقتصادي للإمارة، ومن منطلق ذلك لم يتوان أبداً في مد يد المساعدة للتجار، وكان أبي يقول دائماً، إن الشيخ راشد ورث عن أبيه الشيخ سعيد المروءة. وكذلك كان الشيخ راشد يقول لرجال الأعمال: «احلموا بما تشاؤون وكما تشاؤون فأنا أشاطركم الأحلام وسأسعى إلى تحقيقها».
والمفارقة أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، يردد الفكرة ذاتها اليوم، إذ يؤكد دائماً أن سقف الأحلام في الإمارات بغير نهاية.
ويتطرق الكندي إلى تبني الشيخ راشد الديمقراطية أساساً للحكم، فيقول: «الرجل ليس مؤسس دبي الحديثة فحسب، وليس صاحب الدور المشهود في إعلان دولة الاتحاد مع أخيه المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان فقط، بل إنه فوق ذلك صاحب فلسفة حكم لا تزال سائدة حتى الآن، وهذه الفلسفة تقوم على أن لا أبواب مغلقة بين الحاكم والمحكوم، والعلاقة بين القائد والشعب ينبغي أن تتسم بالتفاعل المباشر».
ويؤكد الكندي أن الشيخ راشد تعلَّم ذلك في مدرسة أبيه الشيخ سعيد، الذي يُروى أنه توجه لصلاة الفجر في مسجد بمنطقة الشندغة، ولما كان يتوضأ من الطوي «البئر»، دخل رجل المسجد ويبدو أنه كان ذا حاجة، فهرع إليه ومكثا يتحدثان وقتاً والشيخ سعيد يقابل حديثه ببشاشة، فاقترب بعض المصلين يريدون إبعاده، فقال لهم: «دعوه يفرغ مما أتى لأجله».
ويضيف: «إنها قيم البيئة العربية الأصيلة، التي تسبق الديمقراطية الغربية بمراحل».
ويمضي قائلاً، على النهج ذاته كان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد يسير، وقد أتيحت لي مقابلته مرات بحكم عملي بالمجلس الوطني، ولم أر منه إلا تواضع العربي ابن البادية الأصيل، وحكمة القائد المتابع لأحوال شعبه والمهتم بتحقيق أحلام وطموحات وطنه.
ويتذكر رئيس المجلس الأسبق أنه طلب ذات مرة مقابلة الشيخ زايد، فلما تحدد الموعد ذهب إليه فحدثه عن زيادة ميزانية المجلس لأغراض تتعلق بتسيير أعماله بدرجة أفضل.
يقول: «شرحت للراحل الكبير مبررات طلبي، فلم ينبس ببنت شفة، بل كان يتفحصني بعينيه الثاقبتين في اهتمام، وهدوء، حتى انتهيت من كلامي. وبعد برهة شكرني وقال لي: «يا سعيد أنا مع دعم المجلس وأريده أن ينقل طلبات الناس ويتلمس احتياجاتهم، ونحن نريد للمجلس أن يؤدي دوره باعتباره ركيزة أساسية في بناء الدولة، وإذا كان ذلك سيستدعي رفع الميزانية، فلا مانع أبداً، وقال أيضاً أريدكم أن تنقلوا صوت الناس بأمانة وموضوعية».
ورداً على سؤال بشأن انطباعه عن تلك الكلمات يقول، هذه كلمات قائد يعرف معنى الديمقراطية في أسمى صورها، ويؤمن بالرأي والرأي الآخر، والحقيقة أن المجلس الوطني الذي شرفت بخدمة وطني بين جنباته، قد أصبح بمقتضى هذه الرؤية الرشيدة مؤسسة برلمانية مرموقة، تؤدي دوراً محورياً في صناعة التنمية والتقدم على أرض الدولة.
ولعلي أقول في هذا الصدد إن الإمارات لها تجربة ديمقراطية خاصة، وهي تجربة مستمدة من خصوصيتنا العربية، وليست استنساخاً لنماذج من هنا أو هناك، فمجالس الحكام دائماً مفتوحة تستقبل المواطنين الذين يعبرون مباشرة عن آرائهم دون قيود أو حواجز، وقد كان مجلسا الراحلين الشيخ زايد وراشد دائماً كذلك، ومن ثم ليس غريباً أن يكون مجلسا صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، على القدر ذاته من الانفتاح والحرص على التواصل مع أبناء الوطن.
ويسترسل سعيد الكندي، الأكثر من ذلك أن مجالس أصحاب السمو حكام الإمارات ليست مفتوحة أمام مواطني الدولة فحسب، بل إنها ترحب أيضاً بمن يعيش على أرضنا المعطاء، وأذكر أن مجلس المغفور له الشيخ زايد الرمضاني كان يقصده أخوة عرب ممن يعتبرون الإمارات وطنهم الثاني، وكان طيب الله ثراه يقول إن الأبواب والعقول والقلوب مفتوحة لكل من أراد الخير لنا.
وهذه المقولة في تقديري تعبر أيضاً عن فلسفة إدارة وحكمة سياسية لا تزال الإمارات تتبناها حتى الآن، ولعل وجود منافذ اقتراحات إلكترونية لجميع مؤسسات دبي الحكومية، يُتاح عبرها تلقي أفكار الناس بشأن تطوير الأداء، يكشف عن أن حاضر الإمارات موصول بماضيها، وما نحصده اليوم نتاج غرس الأمس.
ويروي الكندي موقفاً آخر جمعه بالمغفور له الشيخ زايد فيقول: كان طيب الله ثراه في جولة لتفقد أحوال المواطنين بمنطقة الذيد في الشارقة، فدُعيت مع 14 شخصاً لمقابلته، وذهبنا معاً، ولما دخل علينا ألقى التحية ثم جلسنا جميعاً على الأرض، جلسة في منتهى البساطة والدفء، ومن ثم حدثنا عن طموحاته لدعم العمل الخليجي المشترك، وقال بلغة واضحة إن الإمارات تؤمن بأن الأخوّة بين شعوب المنطقة، يجب أن تثمر عن تعاون أوثق في مختلف المجالات، وأنا جمعتكم لنفكر معاً بصوت مرتفع في وسائل تعزز ذلك.
ويختتم سعيد الكندي سرده قائلاً: «يبلغ عمر دولتنا اليوم 52 عاماً، مما يعني أن هناك جيلين لم يعرف أبناؤهما عن الحياة قبل الثروة النفطية شيئاً، وحين نحدثهم عنها اليوم يشعرون بأننا نتحدث عن أشياء تنتمي إلى عصور سحيقة، أو قل قرون غابرة، وهم في شعورهم ذاك معذورون، فمن ينظر إلى ما حققته الإمارات اليوم لا يمكن أن يتخيل أنها كانت قبل نصف قرن بعيدة عن الحداثة والتطور، لذلك يعجز الشباب عن استيعاب صورة الأمس، أما نحن الذين عشنا التحولات فنعرف حجم المعجزة والإنجاز».