لبنان.. عام الفراغ والحرب وسقوط «حزب الله»

أطفال لبنان.. آمال في إنهاء الصراعات الداخلية والخارجية والعيش في سلام
أطفال لبنان.. آمال في إنهاء الصراعات الداخلية والخارجية والعيش في سلام
رجل يسير أمام مبنى مدمر في موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 أكتوبر 2024
رجل يسير أمام مبنى مدمر في موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 أكتوبر 2024

تودّع لبنان سنة كانت مليئة بالأزمات على كلّ المستويات، وضمّها إلى السنوات المريرة التي صاغت أقسى وأسوأ أزمة في تاريخها، وذلك بعدما رسمت على الخريطة وطناً مهدّداً بكيانه وبقائه، حيث كانت لبنان مسرحاً لتحولات دراماتيكية، تجاوزت كل التوقعات، إذ تعاقبت الأحداث المفصلية التي دفعت البلاد إلى حافة الهاوية.

فتعدى الشغور الرئاسي إلى مسرح لصراعات داخلية وخارجية، أرهقت كاهل الدولة والمواطنين، على حد سواء، من الانخراط في حرب ما يسمى بإسناد غزة، مروراً باغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، وما تبعه من استهداف لقيادات الحزب، وانهياره، وصولاً إلى توقيع اتفاق أمني لبناني-إسرائيلي، تحت وطأة الانهيار السياسي والعسكري.

حربٌ أسمتها إسرائيل «سِهام الشمال»، استمرت 66 يوماً (23 سبتمبر- 27 نوفمبر)، وبدت كأنها جمعت «مميّزات» كلّ نقاط قوّة إسرائيل في الحروب السابقة، مضاف إليها «ابتكارات» مروّعة، ما أودى بحياة 4047 شخصاً، وإصابة نحو 17 ألفاً بجراح، نصفهم سترافقهم إصاباتهم مدى الحياة، عدا عن الخراب الذي لا يُعوّض، والدمار غير المسبوق والأوسع من أن تحتويه العيون، لا سيّما في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع..

حربٌ لم يرغبها السواد الأعظم من اللبنانيين، إلا أنهم وقعوا فيها، رغم كلّ الجهود والمناشدات والمحاولات السياسية والدبلوماسيّة، وهي التي أودت في يومها الأول بحياة 558 شخصاً، وهو الرقم الأعلى، ليس فقط منذ بدء الحرب عام 1975، بل منذ الحرب العالمية الأولى، منذ أكثر من 100 عام.

وهكذا، أعلنتها إسرائيل حرباً من دون هوادة، في ظلّ معادلة واضحة المعالم: إما أن يوقف «حزب الله» ضرب إسرائيل، وإما سيستمرّ الإسرائيلي على هذه الوتيرة، من استهداف مواقع ومسؤولين عسكريين وأمنيين، ومواصلة خطط الاغتيالات، حين يتحكمون بالهدف، كما حصل باستهداف قياديين ميدانيّين في «حزب الله»..

أما عملية اغتيال الأمين العام السابق لـ «حزب الله»، حسن نصر الله، بأطنان من المتفجرات التي زلزلت بيروت وضواحيها، في 27 سبتمبر، فلم تأتِ كحدث منفرد، بل كانت واحدة من أفعال حرب شرسة، بدت الاغتيالات المخيفة بنداً استراتيجياً فيها.

وذلك بهدف «استئصال» أقوى ميليشيا مسلحة في العالم، موجودة في واحد من أضعف بلدان العالم. علماً بأن حجم الغارة الإسرائيلية التي استهدفت الزعيم «التاريخي» للحزب منذ عام 1992، كان غير مسبوق، لجهة استعمال قنابل خارقة للتحصينات، زِنة القنبلة 2000 رطل، الأمر الذي أحدث زلزالاً، أدّى إلى تسوية 6 مبانٍ بالأرض.

خسائر «حزب الله»

تعاظمت الخسائر المتوالية على «حزب الله»، كما تعاظمت كارثة الحرب على لبنان، وهي التي امتدّت زمناً خرائبيّاً ومأساوياً «امتلأ» بالدماء والدموع، إلى أن حلّت هدنة الـ 60 يوماً، التي دخلت حيّز التنفيذ فجر 27 نوفمبر الفائت، ومعها لم يستتبّ الهدوء حتى الآن على الحدود، وإنْ غابت المسيّرات عن السماء.. هي «هدنة» وحسب، وربما استراحة محاربين يؤمنون أن الحرب التالية لا مفرّ منها، عاجلاً أم آجلاً.

علماً بأن الذين بلغوا سبعينيات أعمارهم من اللبنانيين، اختبروا على الأقلّ 20 هدنة، ما بين حروب محليّة أو حدوديّة، صغرى أو كبرى، منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم.

فراغ

أما على المقلب السياسي من الصورة، فحلّت الحرب على اللبنانيين، وهم بلا حماية ولا ردع ولا سند. لا رئيس للجمهورية، لا حكومة أصيلة، لا مجلس نيابياً فاعلاً، لا دولة، لا اقتصاد ولا وفاقاً وطنياً. والأسوأ، لا سياسة ولا حياة سياسية بعد مصادرتها وخنقها.

وأحياناً تخوين كلّ من يطالب بها.. لا حياة دستورية، ولا سلطة منتخبة، ولا إرادة جامعة وقادرة. وهذا ما جعل الحرب أشدّ تدميراً، والويلات أكثر مأسويّة، وربما أكثر فاعليّة في تدمير آخر ما تبقّى من مقدّرات البلاد، فكانت النتيجة:

كارثة على العمران، مأساة على البشر، تمزيق لوحدة البلاد، تحطيم للسيادة وتفريط بالاستقلال، تبديد لتعب أجيال، خسارات لا تُعوّض، تأخر لا يُستلحق، وموت عميم.

نزوح

وبغياب أيّ خطة للدولة لترتيب عودة النازحين وإعادة الإعمار، وفي يوم المسير الطويل، الذي رافق لحظة إعلان وقف النار، حكايات تُروى، ومفاجآت عن قتلى اكتشفت أمهاتهم أنهم أحياء، وعن راعي الغنم الصامد، و«ختيار» الشرفات الذي رفض النزوح، وعن مدينة بنت جبيل، وغيرها.

ولا يزال للأيام المقبلة بقية، ولن تكون البقية على حساب الناس وحدها، لأن القرى، جنوباً وبقاعاً وضاحية بيروت، ما زالت بحاجة إلى آليات رسمية لرفعها من تحت الأنقاض.

وهذه الآليات انحصرت بأولويات انتشار الجيش في الجنوب، وتقديم خطّة لمراحل الانتشار، تنفيذاً للقرار 1701 ومندرجاته، وما كان على لبنان سوى التزام البنود الـ 13 الواردة في المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار، إذ حدّد نصّ الاتفاق مهلة 60 يوماً لانسحاب الجيش الإسرائيلي إلى جنوب «الخطّ الأزرق»، وانتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني بشكل تدريجي، وتنفيذ الالتزامات المنصوص عليها.

لكنّ المقترح لم يلحظ مدّة زمنيّة لتطبيق الفقرة 13 التي تنصّ على تسهيل المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل ولبنان، بهدف حلّ النقاط المتنازع عليها على طول «الخطّ الأزرق»، بما يتفق مع القرار 1701.

علماً بأن الحدود اللبنانية مرسّمة ومثبتة في اتفاقية الهدنة الموقعة بين لبنان وإسرائيل عام 1949، والتي اعترفت بها إسرائيل آنذاك. وما خلا هذه النقطة الملتبسة بمواعيدها، فإن لبنان بدأ تطبيق بنود الاتفاق.

انهيار الليرة

وسط ازدحام المشهد السياسي على نيّة الرئاسة المعلّقة منذ 31 أكتوبر 2022، وفيما سجلت «الخماسيّة» الدوليّة والعربيّة دخولها على الخطّ الرئاسي، كان عام 2024 شهد «الاغتيال» الآثم للعملة الوطنية، تحت ضغط لعبة «شدّ الحبال» على الحلبة السياسية، إذ انهارت الليرة اللبنانية، في ظلّ «الدولرة» شبه الشاملة والكاملة، وهي التي كانت صمدت عقوداً من الاقتتال والحروب والانقسامات.

وذلك، قبل توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، بشبهة اختلاس أموال المصرف المركزي، وبعد عواصف داخلية وأوروبية وغربية، أثارها خلال الهزيع الأخير من ولايته (1993 - 2023)، الأطول في تاريخ ولايات حكام المصارف المركزية في لبنان والعالم.

وفي الوقت الرئاسي الضائع، تمّ التمديد التقني «الثالث» للمجالس البلديّة والاختياري تحت قبّة البرلمان، تحت بند «تشريع الضرورة»، لكون انعقاد مجلس النواب تشريعياً، في ظل شغور مركز رئاسة الجمهورية، بقي مفتقداً للإجماع حول دستوريته، في حين طُويت صفحة موازنة «أفضل الممكن».

أما على المقلب الآخر من الصورة، فبرز كلامٌ عن أن البلد يسير في خطى متسارعة، إما نحو تسوية ما، وإما مزيد من التأزم من دون سقف أو ضوابط، لا سيّما أن الأمور لن تقف عند حدود انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتأليف حكومة جديدة، بل ستتخطّاها ربما إلى تقاطع كل التناقضات الداخلية والخارجية، لتصل إلى نتيجة من اثنتين: إما إعادة ترميم المنظومة الحاكمة برعاية دولية مباشرة، وإما الذهاب نحو الفوضى.

وعليه، يبدو مجمل المصير اللبناني رهينة «وديعة» أو «تركة» انتقلت إلى السنة الجديدة، يجسّد وجهها الأول عند الحدود جنوبٌ متفجرٌ، ينذر بتطوّراته الميدانية بانزلاق إلى الأسوأ، فيما يجسّد وجهها الثاني في الداخل أزمة فراغ رئاسي متمادٍ، باتت تهدّد بتحلّل الدولة والنظام، والإطاحة بكلّ الأصول الدستورية.

أما اللبنانيون، وبعدما أُغرقوا في أزمات لا تنتهي، فوجدوا أنفسهم «وجهاً لوجه» مع الأزمات إياها، والتي تبدو وكأنها «حزمت حقائبها» وسافرت معهم إلى العام الجديد.

وفي ظلّ هذا الرسم التفصيلي للانسداد والأزمات، وفي انتظار ما تخبّئه الأيام المقبلة من أحداث، وربما مفاجآت، تجدر الإشارة إلى أن العام الفائت، وقبل أن يرمي آخر أوراقه، كان فتح ملحقاً جديداً في الأجواء الإقليميّة والدولية، ومفاده اقتراب دخول لبنان في تفاوض مفصّل، بما يتعلّق بكيفية تطبيق القرار الأممي 1701، وذلك وفق مساريْن:

الأول، هو وقف المواجهات وإرساء التهدئة جنوباً، ربطاً بمسار الترسيم البرّي، الذي اقترحه المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين، فيما الثاني هو المسار السياسي، وفقاً للتصوّر الأمريكي، والمتعلّق بالحديث عن انسحاب إسرائيل من النقاط الـ 13 المتنازع عليها مع لبنان.

ومن بوّابة تطبيق القرار الدولي 1701 بكلّ مندرجاته، ارتفع منسوب الكلام عن أن العام الجاري سيحمل في بداياته دفعاً متجدّداً لعملية تثبيت الحدود البريّة بين لبنان وإسرائيل، برعاية أمريكية وإشراف أممي، وخصوصاً أن الـ «1701» يتحدث عن الحدود الدولية مرّتين ضمن بنوده.

أما على المقلب الآخر من الصورة، فثمّة إجماع على ترابط مسارَي العودة إلى مندرجات الاتفاق السياسي الذي أرسى الاستقرار بموجب القرار 1701، واستكمال المسار الأمريكي في سبيل تكرار نموذج ترسيم الحدود البحريّة في البرّ، ما سيفرض استقراراً مستداماً في الجنوب اللبناني.

وذلك في مقابل تغيّر بالوقائع السياسية في الداخل اللبناني، وربما بالوقائع الدستورية أيضاً. وهنا، يجدر التذكير بالمسار التفاوضي الذي قاده هوكشتاين في ملفّ الترسيم البحري جنوباً، وما أنتجه من «اتفاق» بوساطة أمريكية ورعاية الأمم المتحدة، في 27 أكتوبر من عام 2022.

وهذا ما يفتح المجال أمام إمكانية البحث في ترسيم الحدود البريّة، أو إظهار تلك الحدود، كما يؤكد لبنان، وإنْ كان غير ممكن إنجاز ذلك من دون وجود رئيس للجمهورية، من صلاحياته إيداع المذكرة ومهرها بتوقيعه. وفي المقابل، ضجّت الكواليس اللبنانية بإمكانية حصول مقايضة ما بين أيّ اتفاق حول الحدود وإعادة الاستقرار، وبين إعادة تكوين السلطة السياسية في لبنان.

أما أمنياً، فقد سجّل شهر أبريل عودة «أمن الجنوب» إلى الواجهة، من بوّابة بلدة رميش الحدوديّة، والذي كان الأول من نوعه، منذ بدء المواجهات على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وتمثل في استهداف دوريّة تابعة لهيئة الأمم المتحدة لمراقبة اتفاقية الهدنة، ما رسم، من حينه، خطوطاً حمراء مع أصحاب القبعات الزرق. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن مجلس الأمن الدولي مدّد بالإجماع، أواخر شهر أغسطس، لـ «اليونيفيل» لمدة عام واحد.

ومن بروكسل، رفع رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، الصوت مجدداً بشأن النزوح السوري في لبنان، قائلاً: «نرفض تحويل بلدنا إلى وطن بديل». علماً بأن هذا الملف شهد إعلان تفاهم أوروبي- قبرصي- لبناني بشأنه، وكان أبرز ما فيه:

مساعدة مالية هامّة، بقيمة مليار يورو، حتى عام 2027، للبنان، وتحديداً لتقوية الأجهزة الأمنية والعسكرية المكلّفة ضبط الحدود البريّة مع سوريا.

تزامناً، تمكن مطار بيروت من «لملمة» تداعيات تقرير صحيفة «التلغراف» البريطانية بحقّه، والذي أشارت فيه إلى أن «حزب الله»، يقوم بتخزين أسلحة وصواريخ آتية من إيران في مطار بيروت، وذلك قبل أن يصبح لبنان في «قلب الحرب»، وفي دوّامة المخاوف من أن يتحوّل إلى «غزّة أخرى».

وفيما كان لبنان في «عيْن عاصفة» جبهته الجنوبيّة، للمرّة الأولى منذ اندلاع المواجهات بين «حزب الله» وإسرائيل في 8 أكتوبر من عام 2023، علّقت شركات الطائرات العالمية والعربية رحلاتها إلى بيروت، في إجراء تمّ ربطه بتقييم المخاطر التي تحوم من تلّ أبيب إلى لبنان.

تفجير أجهزة البايجر

وفي 17 و18 سبتمبر، شهد لبنان حدثاً أمنياً خطيراً، تمثل بإقدام إسرائيل على تفجير أجهزة «البايجر» وأجهزة «الإيكوم» اللاسلكية، وبطاريات الطاقة الشمسيّة، التي يحملها مئات عناصر «حزب الله»، وأصابتهم بجراح بالغة في مختلف أنحاء لبنان (37 ضحية ونحو 3000 مصاب)، ما اعتبر أكبر ضربة استخباراتية- أمنيّة وُجّهت إلى «حزب الله»، منذ بدء «حرب الإسناد» إلى حينه. علماً بأنه، وقبل هذا التاريخ، بدا اللبنانيون كأنهم يعيشون حالة «برزخيّة»، ومحاصرون بلا يقين منهك.

لا هم في سلم ولا في حرب.. لا سبب للنزول إلى الملاجئ، ولا طمأنينة في غد طبيعي.. لا سبب للتشرّد، ولا أمان في البقاء. وبين غمضة عين وانتباهتها، دوّت الانفجارات المتتالية، وتطاير لهيب الكارثة، وضاعت معالم الأمكنة المرتبطة بوجود «حزب الله»، جنوباً وبقاعاً وفي الضاحية الجنوبية لبيروت:

ساحات حرب مشرّعة على كلّ الاحتمالات المرتبطة بما يسمى «حرب الإسناد»، فيما «التحفت» الأبنية بالسواد والعتمة والحيرة. وفي الأرض المحروقة، ومن خلف الغبار الذي لم ينجلِ بعد، بقيت صورة بيروت من صورة ضاحيتها الجنوبية، علامةً ورمزاً ودلالةً وتعويذةً، ونصباً في المخيّلة، ودليلاً ملموساً على أنّ كارثة كبرى وقعت هنا، تماماً كما كانت هناك (غزّة).

وهكذا، وجد لبنان نفسه في بداية نفق أسود معتم، لا أفق واضحاً إطلاقاً لنهايته، فيما جنوبه وبقاعه والضاحية الجنوبية لعاصمته، رزحت تحت أعتى آلة حربية حديثة، تعمّدت من خلالها إسرائيل وضع دولته على خرائط النار.

وغداة إعلان الرعاية الأمريكية - الفرنسية المشتركة لاتفاق وقف النار، وما تلاها من دخول اتفاقيّة الهدنة حيّز الاختبار الميداني لمدّة شهرين، منذ فجر 27 نوفمبر الفائت.

والتزاماً منه بالوعد الذي كان ربطه بوقف إطلاق النار، أطلّ رئيس مجلس النوّاب، نبيه برّي، على اللبنانيين، ليعلن التاسع من يناير المقبل موعداً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

علماً بأن هذا الإعلان جاء في بداية الجلسة التشريعية التي عقدها المجلس النيابي، وكانت مخصّصة للتمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون، وهو أحد أبرز المرشحين لرئاسة الجمهورية.

وفي الانتظار، فإن ثمّة كلاماً عن أن الشهرين الكاملين اللذين انقضيا (27 سبتمبر- 27 نوفمبر)، أنهيا مرحلة في تاريخ لبنان، لتبدأ مرحلة جديدة. فالمعادلات القائمة منذ سنوات، تغيّرت في الستين يوماً المنصرمة، والتوازنات تبدّلت، بحيث أن مشهداً جديداً بدأ يرتسم منذ الرابعة من فجر أمس الأول، أي مع بدء سريان وقف النار.

وذلك بمعزل عن حسابات الربح والخسارة. ذلك أن الحكومة اللبنانية راضية، وأعلنت التزامها، واللبنانيون باشروا عملية العودة للتفقد، ومَن لم يُدمّر منزله فضّل أن يكون إيواؤه فيه لا في أيّ مركز إيواء. أما الرئيس برّي، فكان الأشدّ تهيّباً للمرحلة، في الكلمة التي وجهها إلى اللبنانيين، فتحدث عن أن «اللحظة ليست لمحاكمة مرحلة، بل هي امتحان لكل لبناني»، فاتحاً بذلك الباب أمام جرأة المراجعة النقدية.

حرب الـ 66 يوماً

وبالعودة إلى الحرب الأخيرة، فقد استمرّت 66 يوماً (عدا أشهر «الإشغال والمساندة» الحدوديّة النطاق)، وكانت بالغة الاختلاف عن سابقاتها، إذ اتّسمت ببعض من الخيال العلمي، الذي أضحى واقعاً، وبعنف «مدروس» وآلي وممنهج، عدا عن كونه كان شديد الدقّة والفعالية.

فكانت هناك إدارة متحكّمة ومسيطرة على النار على نحو واضح: قصف شقة فقط، أم مبنى واحد، أم حيّ بكامله. وهي إدارة استخدمت الذخيرة والتدمير بكفاءة «سياسية» مخيفة، تماماً كما استخدمت الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، ما مكّنها من تنفيذ غارة ضارية على مبعدة أمتار من مطار بيروت، الذي بقيت الطائرات تقلع وتهبط فيه بأمان مضمون دولياً.

أما السمة الأخرى، فكانت التحكّم بالسكان، عبر إبلاغهم أوامر الإخلاء. وذلك، بالإضافة إلى تشابك القصف التدميري العشوائي في الجنوب، والمحدّد في الضاحية الجنوبية لبيروت، أو الاثنين معاً في البقاع.

والقتال غير التقليدي، بمحاكاة لحرب العصابات من قبل الجيش الإسرائيلي، والتوغل البرّي دون الاجتياح الواسع، والاستخدام المكثف للدرون المتعدّد المهام، وشنّ حملة اغتيالات لا مثيل لها في أي حرب أخرى. وبمعنى آخر، تحكّمت إسرائيل بـ «اقتصاد الموت» وفق ما تشتهي: مجزرة هنا، اغتيال هناك، وصفر ضحايا هنالك.

إلى ذلك، فإنّ ثمّة إجماعاً على أن «حرب سبتمبر» كانت فتّاكة بتكنولوجياتها المتفوّقة، وأكثر تدميراً من حرب عام 2006، وأقلّ عشوائية من حرب 1982.

وأشدّ ضراوة من كلّ الحملات الجويّة التي شنّتها إسرائيل على لبنان في عامَي 1993 و1996، لكنّها كانت «معقّدة» و«مقيّدة»، إلى حدّ منعت إسرائيل من رغبتها بتكرار ما اقترفته في غزّة. أما حجم الدمار، ففاق أضعاف ما أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية ما بين يونيو وأغسطس 1982، لأن إسرائيل هذه المرّة كانت تريد لا الغزو الشامل والوصول إلى بيروت مثلاً، بل «العقاب».

وإلحاق أكبر قدر من الأذى بما سُمّي «البيئة الحاضنة» لـ «حزب الله»، علاوة على تكبيد لبنان كلفة تفوق قدرته، وهو المأزوم حتى الإفلاس اقتصادياً ومالياً. ووصلت خسائر لبنان جراء هذه الحرب بنحو 8.5 مليارات دولار، استناداً إلى تقديرات البنك الدولي. مع تدمير حوالي 100 ألف مسكن بشكل كامل أو جزئي، بتكلفة تصل إلى 3.4 مليارات دولار.