استهل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ولايته الثانية بسياسات حملت بصمته «الشعبوية»، مرتكزاً على أجندة صدامية بغية إعادة تشكيل المشهدين الداخلي والدولي، وهو ما غلّف سياساته منذ الشهر الأول بشكل واضح.
داخلياً، تبنى ترامب نهجاً اقتصادياً مختلفاً عن سلفه بايدن، تمثل في خفض النفقات الفيدرالية والسعي لإعادة هيكلة الجهاز البيروقراطي، ما أثار جدلاً قانونياً. أما على الصعيد الخارجي فقد تصدرت سياساته الحمائية المشهد، عبر فرض رسوم جمركية مثيرة للقلق.
وعلى مستوى الأزمات الدولية، سعى ترامب إلى تقديم نفسه كمهندس للسلام، غير أن مقاربته حملت طابعاً أحادياً، انعكس في طرحه لمبادرة صدامية بشأن غزة، ومحاولة إنهاء الحرب في أوكرانيا عبر تفاهمات مباشرة مع موسكو، وسط تململ أوروبي وتحفظات أوكرانية.
صدام داخلي
على الصعيد الداخلي، ومنذ اليوم الأول لتنصيبه، بدأ ترامب تنفيذ سياسات داخلية جذرية أثارت لغطاً، أبرزها حملة طرد الموظفين الفيدراليين، وخفض النفقات بقيادة إدارة إيلون ماسك، وحتى التلويح بإغلاق وكالات حكومية أنشأها الكونجرس، وهي التحركات التي اكتسبت زخماً طغى على جهوده في قضايا الهجرة وأمن الحدود.
كما سعى لإعادة صياغة السياسات الاجتماعية بإلغاء برامج التنوع والمساواة. وقد واجهت تلك السياسات عقبات قانونية، بعد أن تعرضت قراراته لعشرات الطعون والدعاوى القضائية منذ اليوم الأول. شملت الاعتراضات محاولاته إلغاء حق المواطنة بالولادة، وتجميد منح فيدرالية، وخطط إصلاح وكالات حكومية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ما وضع سياساته تحت تدقيق قضائي مكثف.
لكن بحسب الباحث في مؤسسة «أمريكا الجديدة»، باراك بارفي، لدى حديثه مع «البيان» قال إنه «من السابق لأوانه التوصل إلى أي استنتاجات حول مدى فعالية سياسات ترامب؛ فلقد تعهد بخفض الهدر الحكومي، لكنه لم يجد الكثير بخلاف أموال كوفيد، كذلك وعد بخفض القوى العاملة الفيدرالية لكنه لم يتمكن من الوصول حتى إلى 10%، كذلك وقع أوامر تنفيذية لكن المحاكم رفضتها وحددت موعداً لإدراجها»، موضحاً أنه «قدم الكثير من الوعود ولكن الأمر يستغرق وقتاً لخبز الكعكة».
ومن الولايات المتحدة، يقول خبير المخاطر المالية، محيي الدين قصار لـ«البيان» إنه من غير المتوقع أن يحقق ترامب تقدماً حقيقياً في خطته سوى على المستوى الدعائي؛ ففريقه جاء من خلفية السوق لا من العمل الحكومي، حيث لا تكفي أرقام المبيعات للتعامل مع تعقيدات الإدارة العامة، ولذلك اصطدم مباشرةً بالتكنوقراط، وانتهج أسلوباً عدائياً ضدهم. ووفق قصار، فحتى الآن، نجحت سياسته في زعزعة الحكومة الفيدرالية «وسيبرر أي فشل بمعارضتهم له».
الرسوم الجمركية
اقتصادياً، شكّلت الرسوم الجمركية محور ارتكاز ترامب لإعادة تشكيل النظام التجاري الدولي، في خطوات تعكس توجهاً متزايداً نحو الحمائية الاقتصادية المتشددة. وهي سياسات من شأنها إعادة رسم ملامح العلاقات التجارية العالمية، مُنذرة بصدامات اقتصادية مع الشركاء الرئيسين للولايات المتحدة بما في ذلك كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي وحتى الصين. ولا سيما بعد أن جاء إعلانه عن فرض رسوم متبادلة عالمية على الشركات التجارية ليؤكد نهجه الرامي إلى ما يسميه «تصحيح الاختلالات التجارية»، في ظل انتقادات دولية، وتحذيرات من اندلاع موجة انتقامية قد تؤدي إلى اضطرابات تجارية.
على الصعيد الداخلي، أثارت هذه الخطوات مخاوف عميقة من تداعياتها على الاقتصاد الأمريكي، حيث حذّر خبراء من أن الرسوم الجمركية الجديدة قد تُترجم إلى ارتفاع مباشر في تكاليف السلع الأساسية، ما يغذي التضخم.
مفارقة مزدوجة
في هذا السياق، يقول بروفيسور العلاقات الدولية في كلية هاميلتون، آلان كفروني في حديثه مع «البيان»، إن سياسة «أمريكا أولاً» تعكس مفارقة مزدوجة؛ فمن ناحية، تعبر عن التراجع النسبي للهيمنة الأمريكية في ظل صعود الصين، ومن ناحية أخرى، تُظهر قدرة واشنطن المتبقية على إعادة تشكيل النظام العالمي لصالحها، رغم ما تسببه من اضطراب وعدم استقرار متزايد.
ويشير إلى أن الرسوم الجمركية تُعدّ من تجليات هذا التناقض، إذ تستفيد الولايات المتحدة من دورها المحوري (..) كما تفرض الولايات المتحدة عقوبات، وخصوصاً على الصين، تُستخدم فعلياً كتعريفات جمركية، رغم تقديم مبررات إنسانية وأمنية وطنية. وفي الوقت ذاته، تتيح القدرة على فرض الرسوم الجمركية من دون عواقب كبيرة لإدارة ترامب تنفيذ أجندتها الداخلية، حيث تُستخدم الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك لتمويل تخفيضات ضريبية للشركات.
واقع دولي جديد
وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، يسعى ترامب إلى إعادة رسم صورته كـ«صانع سلام»، إلا أن مقاربته في الشهر الأول لهذه الأزمات اتسمت بسياسات مثيرة للجدل، عكست سياسة براغماتية تستهدف تحقيق مكاسب سياسية خاصة.
في ملف غزة، طرح ترامب اقتراحاً لتهجير السكان إلى مصر والأردن، وجدد تأكيده على خطته لسيطرة الولايات المتحدة على غزة وترحيل الفلسطينيين منها، وأنه ملتزم بشراء وامتلاك غزة. وهو ما قوبل برفض عربي قاطع وانتقادات غربية، وسط تساؤلات هل هذه الخطة ضرب من الجنون أم مخطط لتحقيق المكاسب لاسرائيل؟
أما في أوكرانيا، فقد تبنى نهجاً مختلفاً عبر الانخراط المباشر في جهود الوساطة، حيث بادر بالتواصل مع الرئيس الروسي بوتين، وفتح محادثات فورية مع الروس من دون أوروبا لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
ورغم أن هذه الخطوة حملت بوادر انفراجة، إلا أنها أثارت قلقاً أوروبياً وأوكرانياً؛ نظراً للمخاوف من أن تؤدي إلى تسوية منحازة لموسكو، تُفرض على كييف من دون ضمانات حقيقية للحفاظ على سيادتها.
تحولات هيكلية
وبينما يشهد النظام العالمي تحولات هيكلية عميقة تتبلور منذ سنوات عديدة، فإن نهج دونالد ترامب «أمريكا أولاً» يسرّع هذه التحولات بشكل كبير، بحسب آلان كفروني، الذي يقول إن أبرز تجليات هذا التغيير يتمثل في الانهيار الذي تقوده الولايات المتحدة للتحالف عبر الأطلسي، والذي كان حجر الزاوية في الهيمنة الأمريكية العالمية منذ 1949.
ويضيف: «بعد شهر واحد فقط من توليه المنصب، اقترح ترامب إعادة انضمام روسيا إلى مجموعة السبع، وبدأ مفاوضات ثنائية لتسوية الحرب في أوكرانيا متجاوزاً الرئيس الأوكراني زيلينسكي والاتحاد الأوروبي، وذلك وفقاً للرؤية الروسية ومطالبها الأساسية (..) أما سقوط النظام القائم على القواعد، فينعكس في العديد من المطالب الأمريكية التي كانت لا تُتصوَّر في السابق، مثل ضمّ غرينلاند وغزة وكندا، رغم أن بعضها يحمل طابعاً خطابياً جزئياً».
روسيا مستفيدة
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بوسطن، إيغور لوكيس، يقول لـ«البيان» إن أي سلام قد يسعى ترامب لتحقيقه سيكون وفقاً لشروط بوتين، ويعتقد بأن الاتفاق المحتمل بين ترامب وبوتين بشأن مستقبل أوكرانيا سيكون على حساب الشعب الأوكراني، وأوروبا، والتحالف عبر الأطلسي، والولايات المتحدة نفسها.. كما سيضع فنلندا ودول البلطيق ومولدوفا وبولندا في مرمى نيران روسيا.