دونالد ترامب.. "ريمونتادا" العودة من الرماد

حقق المرشح الجمهوري دونالد ترامب مراده وعاد إلى البيت الأبيض من جديد، مسجلاً «ريمونتادا» بعودته من الصفوف الخلفية، بعد كيل الاتهامات له قضائياً وسياسياً، لينتفض من الرماد، وينزل بغرمائه الديموقراطيين هزيمة نكراء، واصفاً نصره في النهاية بأنه أعظم انتصار في تاريخ السياسة الأمريكية.

انجلى غبار المعركة، ويمكننا الآن استعادة الرحلة المليئة بالأحداث والعقبات التي نجح الرجل المحب للأضواء والشهرة في تجاوزها واحدة تلو الأخرى، محلقاً بأجنحته كالعنقاء في سماء السياسة الأمريكية.

بدأت رحلة عودة ترامب منذ يوم 20 يناير 2021، اليوم الذي سلم فيه مقاليد البيت الأبيض لخلفه الرئيس الحالي جو بايدن، فعقب هزيمته في انتخابات 2020، وإعلان فوز جو بايدن، بدأ ترامب الشخصية المثيرة للجدل والحالة الاستثنائية في تاريخ السياسة الأمريكية، في التشكيك بنزاهة الانتخابات، ومع أن تلك المحاولات لم تؤدِ إلى تغيير في النتيجة، إلا أنها عززت صورته كـ "مُحارب" ضد "النظام"، ما مكنه من الحفاظ على قاعدة دعم واسعة بل وتعزيزه، مكتسباً حتى أصوات معارضيه السابقين، واضعاً الأساس السياسي لرجل لطالما رفع شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".

شهدت فترة ما بعد الهزيمة خلافات عميقة داخل الحزب الجمهوري بين المخلصين لترامب وبين "الجمهوريين التقليديين" الذين كان لديهم شكوك حول الفائدة من استمرارية ترامب في الحزب. ورغم هذه الانقسامات، حافظ ترامب على تأثيره الكبير داخل الحزب الجمهوري، فهو الملياردير ذو الكاريزما الخاصة.

إضافة إلى تلك التحركات السياسية داخل حزبه، واجه ترامب سلسلة من التحقيقات القضائية حول محاولاته تغيير نتائج الانتخابات، فضلاً عن ملفات قانونية متعلقة باحتفاظه بوثائق سرية بعد مغادرته البيت الأبيض، وغيرها من القضايا التي كانت كفيلة بأن تنهي أحلامه بالعودة إلى البيت الأبيض، وتجعل أبسط أمانيه أن يواصل ما تبقى له من سنوات في هذه الحياة خارج القضبان.. غير أنه واصل معركته القانونية بكل رباطة جأش.

بدأ ترامب تدريجياً التحضير للترشح للرئاسة مجدداً في انتخابات 2024، وفي نوفمبر 2022، أعلن ترامب نيته الترشح مرة أخرى لرئاسيات 2024، وجاء هذا الإعلان متزامناً مع استطلاعات للرأي العام أظهرت أن حظوظه قوية داخل الحزب الجمهوري، حتى وسط التحديات التي واجهها من بعض أعضاء الحزب الذين حاولوا أن يروجوا لمنافسين آخرين.

استمر ترامب في رفع شعاره الشهير "أمريكا أولاً"، والذي أضحى جزءاً أساسياً من حملته الأولى، والتي ركزت على القضايا الاقتصادية والحمائية، مثل فرض الرسوم الجمركية على الصين، والتحذير من سياسة الهجرة الواسعة، ما أظهره كحامٍ للمصالح الأمريكية.

واصل ترامب العزف على وتر الاقتصاد الأمريكي، الذي أكد أنه بحاجة إلى إعادة الهيكلة لصالح الطبقة العاملة، وهو ما حصد له تأييداً كبيراً من الناخبين الذين كانوا يشعرون بأنهم خسروا الكثير بسبب سياسات الانفتاح على العالم التي انتهجها الديموقراطي جو بايدن.

المعركة الأولى

مع بداية حملته للترشح لرئاسيات 2024، بدأ ترامب معركته الأولى من بيته "الحزب الجمهوري"، حيث شن هجمات شرسة ضد منافسيه الجمهوريين في الانتخابات التمهيدية، مؤكداً أنه المرشح الوحيد القادر على استعادة "عظمة أمريكا".

استطاع ترامب، وعلى الرغم من إغلاق حساباته على تويتر وفيسبوك بسبب أحداث 6 يناير 2021، بث رسائله وشرح رؤاه السياسية عبر منصات أخرى أبرزها "تروث سوشيال" التي أسسها بنفسه، وكانت وسيلة حيوية لتعزيز تأثيره في القاعدة الشعبية.

ظل الحزب الجمهوري منقسماً إلى معسكرين؛ معسكر يؤيد ترامب بشكل كامل ومعسكر آخر يتزعمه "الجمهوريون التقليديون" الذين عارضوا فكرة ترشح ترامب عن الحزب. لعل أبرز الشخصيات التي انتقدت أسلوبه هي رون ديسانتيس حاكم فلوريدا، الذي قدم نفسه كبديل معتدل لترامب، بل وكان يعتبر الأكثر قابلية لتوحيد الحزب والابتعاد عن استقطاباته، لكن ترامب استمر في إظهار قوته عبر الاستناد إلى قاعدته الشعبية الواسعة من الطبقات العاملة والجمهوريين المحافظين الذين يرون فيه شخصية تعبر عن مقاومتهم لسياسات النخبة و"التيار الليبرالي".

استغل ترامب في خطاباته العامة وتجمعاته الانتخابية، تعطش قاعدته الشعبية إلى العودة إلى السياسات القوية التي ميزت فترته الأولى، معيداً التأكيد على شعاراته السابقة مثل "أمريكا أولاً"، إلى جانب تسويقه لمظلوميته، حيث اعتبر نفسه ضحية هجمات سياسية تهدف إلى تقويض حياته السياسية وإبعاده.

فاز دونالد ترامب بترشيح الحزب الجمهوري في انتخابات 2024، وبدأ الاستعداد للمنافسة الكبرى في الانتخابات العامة مع خصمه الرئيس جو بايدن الذي كان لايزال مرشح الحزب الديموقراطي.

المعركة الثانية

خاض دونالد ترامب مناظرته الأولى مع الرئيس الأمريكي والمرشح الديموقراطي جو بايدن في 28 يونيو 2024، كانت تلك المناظرة مشحونة ومثيرة، وكان كل من ترامب وبايدن يدرك أهمية التأثير في الرأي العام الأمريكي في لحظة حاسمة من السباق الانتخابي.

قدم ترامب نفسه كزعيم قوي قادر على إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي ومواجهة التحديات الأمنية، في حين كان بايدن يحاول الحفاظ على ماء وجه إدارته التي واجهت انتقادات شديدة، خاصة في ما يتعلق بالاقتصاد وسياسته الخارجية.

كانت المناظرة اللحظة التي انتظرها ترامب، حيث أجمع العالم على أنه انتصر فيها على خصمه بايدن انتصاراً كاسحاً أدى إلى مراجعة الحزب الديموقراطي فكرة ترشيح بايدن، الذي لم يصمد أمام ضغوط حزبه ليعلن انسحابه من السباق الرئاسي لصالح نائبته كامالا هاريس، التي نالت ثقة الحزب الديموقراطي بعد أداء جيد في مؤتمر الحزب ودعم من شخصيات وازنة مثل باراك أوباما وزوجته ميشيل، وبيل وهيلاري كلينتون.

قلبت كامالا هاريس استطلاعات الرأي وأظهرت الكثير منها تفوقها على ترامب، ولما ناظرته بدت كمن وجه له ضربة قاضية، واهتزت ثقة الجمهوريين في مرشحهم، الذي لم يخفت صوته، ووجه لها اتهامات عديدة من قبيل السرقة وإضاعة البلد.

صمود

في يوليو الماضي، تعرض ترامب لمحاولة اغتيال في أثناء إلقائه خطاباً في تجمع انتخابي بالقرب من بتلر، بنسلفانيا، أصيب على إثرها برصاصة في الجزء العلوي من أذنه اليمنى، ليظهر صموداً غير مسبوق، ما زاد في شعبيته بين طبقات معينة من الشعب الأمريكي الذين نظروا إلى الحادث كدليل على أن ترامب يمثل تهديداً حقيقياً للنظام الراسخ في الولايات المتحدة، ولم يفوت ترامب الفرصة ليقول إن مثل هذه الأعمال تُظهر مدى خوف "الطبقة السياسية" من نجاحه.

وفي سبتمبر الماضي، أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي أن دونالد ترامب كان على ما يبدو هدفا لمحاولة اغتيال، في مقره بمارالاغو، فلوريدا، حيث أفادت حملة المرشح الجمهوري للرئاسة أنه آمن ولم يُصب بأذى.

نصر كبير

جاء اليوم الموعود، الخامس من نوفمبر 2024، وتسمَّر العالم أمام الشاشات ومنصات التواصل، منتظراً معركة حامية الوطيس بين هاريس الطامحة لدخول التاريخ بكونها السيدة الأولى التي تحكم الولايات المتحدة، ودونالد ترامب، الساعي منذ هزيمته في 2020 إلى العودة للبيت الأبيض، ليتفاجأ بنصر مدوٍ وسريع لترامب، الذي أعلن فوزه الكبير في الانتخابات الرئاسية على كامالا هاريس، بعد أن اخترق جدار الولايات الزرقاء تاريخياً.

بعد فوزه، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستدخل عصراً جديداً من الاستقلال السياسي والاقتصادي، مؤكداً أنه سيعمل على تقليص التدخلات الحكومية، ودعم الصناعات المحلية، وفرض المزيد من الرسوم على الصين.. كما سيتعين عليه مواجهة عديد الملفات الداخلية والخارجية، التي تشمل استكمال المشاريع التي بدأها في فترته الرئاسية الأولى، وكذلك التعامل مع قضايا قانونية قد تلقي بظلالها على رئاسته.

رحلة دونالد ترامب من الهزيمة في 2020 إلى الفوز الكبير في 2024 تمثل واحدة من أعظم التحولات في تاريخ السياسة الأمريكية، من رفضه الاعتراف بهزيمته، إلى مناظرته الشهيرة مع بايدن، ومحاولتي اغتياله، وصولاً إلى فوزه المستحق اليوم، كان ترامب مثالاً على المثابرة والصمود في وجه تحديات كبيرة على كافة الصعد، ليستحق وصف "عودة العملاق".