لم يكن الأستاذ علي عبيد مضطراً لتبرير كتابته عن «فتنة العيون» في حائل السعودية لولا سيادة فكرة غريبة مفادها أن الكاتب معني فقط بالكتابة في شؤون بلاده. لمَ لا يكتب الكاتب ـ أي كاتب ـ في أي شأن، داخل أو خارج بلده، طالما أن رأيه لا يمثل سوى وجهة نظر كاتب مثقف يكتب عن رؤاه وعن تجاربه ومشاهداته؟ ولهذا لم يكن مستغرباً أن يحتفي بعض زملاء الحرف، من السعودية ومن خارجها، بمقالة الصديق علي عبيد في «البيان» يوم الاثنين الماضي والتي كانت بعنوان: «فتنة العيون... آخر هموم الأمة».
وقصة العيون تلك ترجع لتصريح ـ وموقف ـ غريب لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مدينة حائل ـ شمال السعودية ـ يؤكد أن الهيئة ستلزم صاحبات العيون الفاتنة بتغطية عيونهن درءاً للفتنة! وحسب هذا الموقف، فإن أي امرأة تغطي عينيها لا بد أنها من صاحبات العيون الفاتنة. لله در صاحب هذه الفكرة الخلاقة التي أشغلتني وأشغلت علي عبيد وعشرات من كتاب الرأي في العالم العربي بالكتابة والتحليل والاستهجان.
ولك أن تسأل، كيف اختُزل الدين العظيم في عيون المرأة وعباءتها وبرقعها ومشيتها؟ هكذا إذن يستمر مشروع تشويه الدين على أيدي البعض ممن يظنون أنهم بقرارات كهذه يحمون الفضيلة ويصونون الأعراض. ومثلما كتب الكثير من الكتاب والمثقفين، فبمثل هذه القرارات ـ وقبلها فتاوى التكفير على أتفه الأسباب ـ يتجاوز الضرر البلد الواحد وتعم نتائجه السلبية على جميع المسلمين.
وقبل ذلك لنا أن نسأل عن البعد الإنساني لمثل هذه المواقف والقرارات. فلو لم يتعرض بسببها لسوء سوى إنسان واحد لأصبح واجباً الكتابة عنها وتحليل أبعادها. المسألة ليست «قضية رأي» لمجتهد أو طالب علم. نحن هنا نتحدث عن «قرار» رسمي لجهة رسمية يفترض ألا تعامل فوق القانون أو تحته. هذا القرار قاد إلى طعن مواطن بريء من قبل «موظف» في الهيئة كان يحاول فرض قرار تغطية «العيون الفاتنة» على امرأة عابرة، فاضطر زوجها للدفاع عن كرامته وكرامتها، فكان أن تلقى طعنة رجل الحسبة.
يا لخيبة الأمل: أبعد كل هذه السنوات من الجدل والنقاش ما نزال في المربع ذاته؟ أي إشغال للعقل وهدر للوقت وضياع للجهد هذا الذي نمارسه منذ أربعة عقود أو أكثر؟ هل بمثل هذه «اللعب» السخيفة تتحقق التنمية والسلم الاجتماعي؟ إننا بالإصرار على السير في الطريق ذاته نخرج أجيالاً من التطرف الخفي ربما من دون أن نعلم. انظر في الثقافة السائدة لدى قطاعات واسعة من شباب الخليج اليوم وبالأخص في السعودية: ثمة «تطرف خفي» يكاد يصبح ثقافة عامة ربما من دون وعي أصحاب اللعبة أنفسهم.
فما إن تطفو قضية اجتماعية مثل قضية «العيون الفاتنة» حتى تفاجأ بحجم التأييد «الشبابي» للرأي المتشدد إزاءها. وهذا «التطرف الخفي» قد تأسس في عقل صاحبه بشكل تلقائي وسطحي بعد عقود من هيمنة خطاب وعظي شفهي يختزل الدين في أحوال المرأة ويقصي العقل بتهم جائرة أو تصنيفات عبثية ضد كل من يحاول إعمال العقل والمنطق.
رأيت يوماً شباباً يقضون في لعب الورق يومياً ساعات طويلة. وقتهم موزع بين مشاهدة قنوات الرقص وتجهيز «الأرقيلة» ولعب البلوت. بعضهم لم يقرأ كتاباً محترماً واحداً في حياته. وما إن تأتي سيرة كاتب صنفه تجار الوعظ في الضفة الأخرى (ليبرالي أو علماني أو كليهما) حتى تفاجأ بحجم الرفض لهذا الكاتب وبقائمة طويلة من الأوصاف البذيئة والظالمة في حقه. تسأل بعضهم: هل قرأت لهذا الكاتب من قبل؟ فيصدمك الجواب: أعوذ بالله أن أقرأ ضلالاته.
وهكذا تجد أن «الحوار» مع الحائط أحياناً أسهل من الأخذ والرد مع بعض من سلّم عقله أصلاً لخطاب صار فيما يبدو من ضمن المسلمات التي لا تقبل السؤال أو الجدل. ولهذا لا نستغرب حملة التأييد الواسعة لكثير من القرارات أو الفتاوى التي ينطبق عليها المثل الشهير: شر البلية ما يضحك، فما زرعناه أمس نحصد «ثماره» اليوم! وهنا أكرر السؤال: متى نبعد عقول شبابنا عن ألاعيب السياسة التي تستخدم الوعظ والإقصاء ضمن أدواتها؟ ومتى ندرك أن اللعب مع الثعابين قد يجر أصحاب اللعبة إلى اللدغة القاضية؟ وهل نسارع إلى محاصرة النار قبل أن تمتد فتحرق البيت أو تسقطه على رؤوس الجميع؟