التذكر والنسيان

تبدو عبارة «التذكر والنسيان» وكأنها تخلق ثنائية موازية لعبارة كونديرا «الضحك والنسيان»، نستعيض فيها بالتذكر بديلاً للضحك، إنها في الحقيقة تطرح الكثير من الأسئلة حول الذاكرة تحديداً: هل من المفيد أن نظل محتفظين بكامل ذاكرتنا أم من الأفضل أن ننسى الكثير مما يؤلمنا ويجرحنا ويحزننا؟ وهل وصل الإنسان لامتلاك القدرة الإرادية على النسيان؟ هل أتيح له امتلاك المفتاح الذي يمكن بالضغط عليه أن يمحو ما يريد من ذاكرته ويحتفظ بما يشاء منها؟

هل يعد التحكم بالذاكرة أمراً يستحق الاحتفاء والمديح؟ نعم؛ لذلك فإن من أكثر العبارات التي يتم تداولها في إطار أدبيات الذاكرة والهوية والوجود في أيامنا هذه مقولة الفيلسوف جورج سانتايانا: «إن أولئك الذين لا يستطيعون تذكر تاريخهم محكوم عليهم بتكراره». ومن كل ذلك نفهم أن النسيان المذموم هو نسيان التاريخ وما مرت به الأمم والجماعات من تحديات وصدمات ومآسٍ واحتلالات وحروب، وغيرها من تحديات اجتثاث الوجود. إن هذه الذاكرة المثقلة بالأوجاع يجب أن تبقى ماثلة ومتوارثة ومحتفظاً بها؛ حتى لا يكرر البشر أخطاءهم وهزائمهم. إن الذين نسوا هم بالفعل الذين كرروا مآسيهم وهزائمهم.

أما التذكر فمسألة أخلاقية بالفعل، حتى أبسط الناس يقدرون الشخص الذي يتذكر أبسط الأشياء، معتبرين أنه شخص ذو أخلاق رفيعة، يتذكر المعروف، والعشرة، وأصله، وماضيه، وأهله، وجيرانه، في كل أحواله، ومهما تبدّل به الحال؛ مع ذلك فتذكر كل شيء أمر يكاد يكون مأساوياً، وإن شخصاً بذاكرة فولاذية كذاكرة فيل لا شك أنه مبتلى بها، خاصة ما تحويه من نقاط سوداء مؤلمة.

إن التذكر والحفاظ على الذاكرة بكتابة التاريخ، وتسجيل اليوميات والسير الشخصية، اختراع إنساني عظيم، وهو أحد أهم أفعال المقاومة والتحدي والبقاء، مقاومة للانمحاء والانقراض، وهنا أستعيد ذلك المشهد في رواية (ماركيز) «مئة عام من العزلة»، حين اجتاح الطوفان قرية ماكونوتشي وكاد يفنيها بكل ما فيها، فخاف الناس أن ينسوا لغتهم وما تعلموه، فصاروا يسجلون اسم كل شيء ويلصقونه به حتى لا ينسوه، أو لا تنساه الأجيال التي ستأتي بعدهم.