كتابان من كتب المذكرات أو السير الذاتية، قرأتهما باكراً فبقيتْ آثار ما جاء فيهما راسخة في ذاكرتي أستعيدها دائماً، فإذا عنّت ببالي تذكارات الطفولة وأيام البيت الأول ومغامرات بيت الجد والجدة، قلت لنفسي إن أنا غامرت بالكتابة حول تلك الأيام، أيام الحي القديم والسور الوهمي الماثل في القلب بين الطفولة وما تلاها، فإنني أتمنى لو أكتب بطريقة الروسي مكسيم غوركي في كتابه ذكريات طفولته «طفولتي»، أو بطريقة الكاتب التركي عزيز نيسين، الذي لا أزال ألمس أثر صدقه الحارق في كتابه «هكذا أتينا للحياة!»

كلا الكتابين كان شديد الدفء والبساطة، والسبب يعود إلى درجة الصدق وغنى التفاصيل، وقد بقي الكتاب الثاني حاضراً في ذهني دائماً بسبب العنوان ربما، فحين يضع الكاتب عنواناً من نوع طفولتي، أو سيرة حياتي أو... إلخ، فإنه لا يبذل أي جهد في التعامل النفسي مع اللغة، لكنه حين يختصر الحياة كلها ابتداءً من اليوم الأول حتى ما بعد الشباب والكفاح والمشاق والسجون، فإنه ينتقي طويلاً كي يَخرج هكذا عنوانٌ لا يمكن نسيانه بسهولة!

وقفت طويلاً عند عبارة نيسين «إن ذكرياتي لا تحمل أهمية، وربما تسترعي الانتباه لأنها تحاكي الكثيرين في طريقة عيشهم وكفاحهم، لكنّ السارقين الذين نهبوا سعادة التعساء لن يتمكنوا مثلي أن يقولوا: هكذا أتينا إلى الحياة، ولن يفارقوها بإرادتهم».

فكيف أتى كل واحد منا إلى الحياة وكيف عاشها؟ ماذا حقق فيها وماذا خسر؟ ما الذي تسرّب من بين الأصابع وثقوب الأيام الواسعة، وإلى غير رجعة وماذا بقي؟ هل أحببنا حياتنا فعلاً، هل اخترناها، هل كنا سعداء فيها؟ أسئلة صعبة تظهر وتختفي لكنها مسجلة على قيد العمر لا تفارقنا، حتى ونحن نرى سنوات العمر تهرب ركضاً إلى الأمام تاركة هذه الكومة الآدمية التي هي نحن في الخلف نلهث وراءها من دون أمل في اللحاق بها!

إن السيرة الذاتية للكاتب التركي عزيز نيسين، تمتلئ بالتفاصيل العميقة وبسرد الحياة بطريقة ساخرة، تلك السخرية التي تحيل الكتابة إلى غوص جاد في الدهاليز الضيقة، وتجعل القراءة متعة اكتشاف باهرة وسط عتمة الأسرار والادّعاءات التي يرتكبها كثير من كتّاب السير الذاتية الذين يجيدون فن الإخفاء والتغاضي!

«كلنا جئنا إلى الحياة كي نعيش سعداء أكثر مما كنا نتصور»، هذا ما آمن به عزيز نيسين حتى في الأوقات التي بكى فيها لأسباب يقول دائماً بأنه يجهلها تماماً!