لا يتوقف دور الفنان عند قيامه بعمله أو اشتغاله على فنه، كأن يرسم أو ينحت أو يعزف أو يدرس الفن ويطلق الشعارات، تلك واحدة من مقدمات الأدوار التي عليه أن يرسخها ليقدم رؤيته للناس ولطلابه ومريديه، لكن ماذا بعد الشعارات؟ ماذا بعد الصورة؟
في فيلم (بعد الصورة) للمخرج البولندي الراحل أندريه فايدا، الذي صنعه بقدر هائل من العاطفة والتأثير، ومات قبل أن يكمله، فأكملته زوجته، إشارة قوية وشديدة التوظيف والتأثير حول دور الفنان صاحب الفكر والقناعات التي ربما لا تتفق مع السائد الاجتماعي، أو مع توجهات النظام، فماذا عليه أن يفعل؟ ينتصر لأفكاره أو يتلمس عنقه ومصالحه؟ يقول (فايدا) في فيلمه المترع بالأحاسيس والحنين، إن دور الفنان يأتي لاحقاً، بعد الصورة، بعد الموقف، وبعد الصرخة والحركة!
النموذج الذي ساقه المخرج ليقول فكرته من خلاله هو الفنان التشكيلي البولندي (البرفيسور ستريمنسكي) الذي عاش في بولندا وروسيا في تلك الفترة، وكان صاحب موقف في مواجهة نظام ستالين وأفكاره حول الواقعية الاشتراكية للفن، والتي رفضها تماماً، من منطلق رفضه تدجين الفن وتجيير الفنان لصالح أفكار السلطة بذلك الجبروت الشائع في تلك الفترة الرهيبة!
رفض الفنان فلاديسلاف ستريمنسكي (الرسام وأستاذ الفن) التشريعات كافة التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية في بولندا، والتي كان الهدف منها توحيد كل الفنون والآداب ومناهج التعبير في خدمة النظام، هذا النظام الذي بدأت أزمته الخطيرة معه في ديسمبر 1948!
فمن صالة بيته حيث يبدأ الفنان بالرسم على القماشة البيضاء، نلاحظ أنه سرعان ما تتحول قماشة الرسم إلى اللون الأحمر، وذلك بفعل قماشة حمراء كبيرة أُسدلت على نافذة الشقة، فيقوم غاضباً ويمزق تلك القماشة بعكازه! سرعان ما يتضح أن القماشة المسدلة تحمل صورة الديكتاتور «ستالين» على خلفية حمراء، ومنذ تلك اللحظة بدأت معاناة الرسام، بدأت المعاناة باستجوابه ثم سجنه، وصولاً لحرمانه من كل حقوقه، بما في ذلك أقمشة اللوحات وأدوات الرسم والطعام، وانتهاءً بالتجويع والموت!
فيلم (بعد الصورة) هو تحية لنضال هذا الفنان البولندي من قبل مواطنه المخرج البولندي أندريه فايدا.