العائشون في الفراغ

الفراغ أو الخواء هو المكان أو الحيز الخالي من أي مادة، وقد أثبت العلماء أنه لا وجود لمكان فارغ، هذا في حقل الفيزياء، أما في المفهوم الشعوري والعاطفي، فإن الفراغ لا يحيل إلى أمر واضح أو محدد أو ذي قيمة أو إلى حالة مريحة، بل على العكس تماماً، فالفراغ معنى مرادف للاشيء، لانعدام المعنى والوزن والأهمية، وأن يوصف شخص بأنه (فارغ) لهو قمة التحقير، فالفارغ هو الشخص الذي لا قيمة ولا وجود له في نظر الآخرين!

وأن يشعر أي شخص بالفراغ، فهذا معناه أن يعيش حالة من فقدان الشعور بما حوله، وبأنه أشبه بالكائن الذي لا تحتمل خفته، الكائن الذي بلا أهمية أو دور أو حتى وجود معلوم ومحدد، كائن يتأمل ما حوله سطحياً دون أن يكون له القدرة على التغلغل والنفاذ في عمق الأشياء، لأنه لا علاقة له بالأشياء.

لنتأمل هذه الصورة: يجلس الإنسان الفارغ من الانشغال والأشغال والعمل والارتباطات على مقعد في مقهى مزدحم وسط المدينة، يكون هو ومن على شاكلته فقط من لا ينظرون إلى الساعة، لا يرتشفون قهوتهم بسرعة، لا يحرقون أعصابهم لأن الوقت سيباغتهم فجأة، وسيتأخرون على دواماتهم أو اجتماعاتهم أو مواعيدهم، هؤلاء هم العائشون في الفراغ، الذين تتساوى عندهم كل الأشياء وكل الأوقات!

والفراغ بهذا الشكل المفصل الذي نتحدث عنه، يبدو أمراً مخيفاً، خطراً، وقادراً على قتل الإنسان ببساطة إذا استسلم لجبروته وسطوته، إنه بهذه الصورة يمثل العدو الحقيقي للإنسان، لذلك على المرء أن يبقى مشغولاً باستمرار حتى يبقى بعيداً عن التفكير في أحزانه وتعاساته ومشاكله، يقولون (إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة).

ومقولة غازي القصيبي: «العمل لا يقتل مهما كان شاقاً ولكن الفراغ يقتل أجمل ما في الإنسان» لأنه يضخم أمام عينيه كل المشاعر السلبية، وكل الأفكار السيئة، وكل الأحاسيس المؤلمة، فيغرق في التعاسة والإحباط والاكتئاب! لذلك فإن العمل، أي عمل أفضل كثيراً بما لا يقارن من الوقوع بين مخالب الفراغ، وتحديداً في مقتبل العمر!