يقول الأديب الروسي ليو تولستوي إن «المعرفة المبنية على العقل أظهرت لي أن الحياة لا معنى لها، فاحتقرت حياتي، ووددت أن أقتل نفسي بيدي، بيد أنني كلما نظرت إلى جماهير الناس حولي كنت أرى أنهم يعيشون فرحين بالحياة، عارفين معانيها السامية؛ لأن الإيمان قد منحهم، كما منحني، قوة على إدراك معنى الحياة وحمل أثقالها بفرح وصبر».
جاءت هذه العبارة في كتاب «الاعترافات» لليو تولستوي.
ما يستوقف القارئ في هذا الاعتراف هو المنظور أو التقييم المتناقض تماماً للفكرة نفسها من قبل أناس متباينين، بمعنى أن الشيء أو الفكرة محل النظر أو التقييم هي نفسها (وهي الحياة في عبارة تولستوي)، لكن الغريب أن يراها الكاتب بلا معنى ولا تستحق أن تعاش، حتى إنه فكر في أن يقتل نفسه للخلاص منها، وهو الكاتب الحكيم الكبير الغني ذو المكانة والتقدير.
بينما ينظر الفقراء والبسطاء من حوله للحياة نفسها، بفرح وفهم لمعانيها السامية باعتبارها نعمة تستحق الامتنان، فلماذا يحدث هذا الفهم المتعارض للقيمة نفسها؟ هل يختلف الغني عن الفقير أو البسيط في تقييمه للنعم والأفكار والأشياء من حوله؟ هل لأن لديه من الدوافع والنواقص ما يجعله لا يرى جيداً؟ هل ما يستدعي فرح الإنسان البسيط يختلف عن ذلك الذي يحتاج إليه الغني والحكيم والفيلسوف ليفرح؟
بل هي المعرفة المبنية على العقل وحده وعدم الإيمان، وهما ما يقودان لكل هذا الإرباك والقلق، كما يستخلص تولستوي وكما جاء على لسان أبي الطيب المتنبي:
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
فبعد أن قضى أديب روسيا الكبير «تولستوي» سنوات طويلة من شبابه وكهولته مترنحاً تحت أسئلة الوجود والحياة والقلق، لماذا الحياة؟ ولماذا العمل؟ ولماذا السعي طالما سيكون مآل ذلك كله الموت؟ وبعد أن فكر طويلاً في الانتحار ثم عدل عنه وانغمس في تأمل الفلسفات والأفكار الكبرى لسقراط وبوذا وشوبنهاور وو...، اهتدى بعد سنوات إلى أن الإيمان الذي لم يكن يقبله هو سلطان آخر يجب أن يضعه بعين الاعتبار حتى وإن لم يقبله، هكذا جاء في اعترافاته، وأن العقل الذي لطالما تمسك به وآمن به لم يستطع أن يقدم له الأجوبة عن تساؤلاته.