لا يحدث لأول مرة!

الإنسان ينسى؛ لأن النسيان إحدى صفاته البشرية التي جبل عليها، وهذا ليس عيباً ولا منقصة، بل هو نعمة بشكل ما قد لا نتفطن لها إلا متأخراً، حين يتقدم بنا العمر ربما، أو حين نقف عاجزين أمام حالات يبدو فيها النسيان نعمة، لا عيباً كما كنا نظن، وكما يتحدث عنه الطب كمرض لا بد من علاجه!

وسواء كان النسيان مما نمر به جميعنا كبشر، وتلجأ إليه أدمغتنا كإحدى آليات التخفّف من ثقل الأعباء والالتزامات والمعلومات التي يحتشد بها الدماغ والذاكرة، ويرزح تحتها الإنسان في هذه الحياة، فيلجأ للنسيان كطريقة للتخفّف والراحة، أو كان النسيان قدراً يصاب به البعض في شيخوخته، فلا يعود يمتلك ذاكرة من الأساس، ولا يعود عقله يرتب الأحداث أو يتذكر الأفعال، كما كان قبل إصابته بالخرف أو الزهايمر! فكيف يكون ذلك نعمة؟

تتحدث فتاة عن والدتها المصابة بهذا المرض: لطالما كانت أمي في شبابها تخاف من التقدم في العمر، كان الكبر أحد أكبر هواجسها؛ لأنه سيفقدها جمالها، وسيملأ وجهها بالتجاعيد، ويتركها ضعيفة عاجزة، وهي السيدة القوية الجميلة المعتدّة بنفسها وسلطتها، لذلك فعندما تقدمت في العمر وأصيبت بالزهايمر، وجدنا أن الله قد منحها نعمة الراحة والهدوء، فهي لا تعلم بما يحدث لها، ولا تفكر بحجم التغيرات التي طرأت على جسدها، لقد عادت طفلة صغيرة لا تقيم وزناً لأفعالها، ولا تعلم بما يحدث حولها، وتقضي أيامها بهدوء دون حزن أو اكتئاب أو تذمر، كل ما في الأمر أنني تبادلت الأدوار معها، فصرت أمها وصارت طفلتي!

نحن اليوم دون زهايمر ننسى، ودون ضغوطات وأعباء، وننسى حتى دون زحام يمور في رؤوسنا، ويلخبط يوميات حياتنا، نحن ننسى لأننا لا نهتم بما يحدث، ولأننا لا نتعاطف بشكل جيد مع ما حولنا، ولأننا لا نريد أن ننشغل بكل شيء وبكل شخص فنسقط الكثير مما يمر بنا من حساباتنا، ثم حين يحدث أمر كان قد حدث مثله سابقاً تصنعنا الدهشة والصدمة، وكأنه يحدث لأول مرة.. غريب أمر الإنسان، وعجيبة هذه القدرة لديه على التحايل!!