المدن تشبه بشرها، والبشر يصنعون مزاج مدنهم، هذه نتيجة خبرة في السفر والمدن والناس، استغرقت مني سنوات طويلة حتى ألملم أطرافها وأصوغ قانونها، ولذلك فأنا لا أتوقع من مدينة تخلو من إشارات المرور، وثقافة الالتزام بقوانين التدخين والمرور، والالتزام بالعدالة في الحصول على الخدمات وفق أولوية الوصول وغير ذلك أن أجد الناس فيها يرحبون بالقانون أو يحترمونه، إنهم على العكس من ذلك، ستجدهم يسخرون، ليس من القانون فقط، ولكن ممن يلتزم به!
إن الناس الذين يعيشون في مدن كبيرة، متشابكة، متسارعة، لا تهدأ حركة مواصلاتها وضجيجها وصفارات سيارات الإسعاف فيها، لن يكونوا أشخاصاً هادئين أو بطيئي الحركة، أو ميالين للتعاطف والثقة بالآخرين، بل على العكس تماماً، ستجدهم، وبسبب وقع الحياة السريع والوقت الخاطف، ووفق قانون علاقات المصالح بينهم، أناساً حذرين، منغلقين على أنفسهم، ميالين للابتعاد عن العلاقات الإنسانية البعيدة عن الحسابات الشخصية، وغالباً ما يعيشون تحت وطأة ضغوطات هائلة، تخلّفهم صرعي الكآبة والتوجس والاكتئاب والعزلة!
المدن التي لا تعترف بحق الإنسان في توفير المنتزهات والمساحات الخضراء والحدائق والمسارات الرحبة للمشي، والطرق المخصصة للمشاة وراكبي الدراجات، والحريصة على تطبيق القوانين، تترك بصماتها على مزاج أهلها وصحتهم وأجسادهم ونفسياتهم، بينما تلك التي حين تخطط كل حي وكل منطقة، تحرص على وضع الإنسان في مقدم اهتماماتها، سيكون سلوك البشر وأجسادهم واهتماماتهم، وحتى علاقاتهم، مختلفة، وإنسانية جداً، أكثر نتصور!
لذلك، عندما تدخل أي مدينة، لا تجعل أول ما تبحث عنه السوبر ماركت والمول والصراف الآلي، فهذه أدوات تتكفل بها قوانين السوق في كل العالم، حيث يحمي السوق نفسه، بالمنطق نفسه الذي يحمي به الأسد عرينه.
لذلك، ليكن أول ما تفتش عنه، هو البحث عن مقدار المساحة المخصصة لحركة الإنسان، مقدار الجمال المتوافر، والنظافة الملزمة، والقوانين المطبقة، مقدار المساحات المتاحة للصغار والشباب وكبار السن، لمشيهم وجريهم وجلوسهم ولعبهم وتنفسهم وتأملهم.. فإذا وجدت ذلك متاحاً، فاعلم أنك في مدينة إنسانية وحقيقية.. انطلق بعد ذلك للمطعم والسوق والصراف الآلي!