يشعر الشخص الذي يتقاعد من عمله بوطأة الفراغ أكثر من أي شخص آخر، فهو شخص عاش الانشغال لسنوات طويلة، وفجأة هبط عليه الفراغ من حيث لا يدري، فماذا يقول رجل يواجه الفراغ كل صباح يا ترى؟
ربما علينا أن نصغي للكاتب المغربي محمد شكري، صاحب «الخبز الحافي»، السيرة الذاتية الروائية المثيرة للجدل والخلاف، لمقولته شديدة الدلالة والعمق:
«..على المرء أن يبقى مشغولاً للحد الذي يلهيه هذا الانشغال عن تعاسته..». وبالنسبة لرجل أصابته الحياة بكل اللوثات والتعاسات، فإنه حين يتحدث عن الانشغال بأي شيء لأجل أن يصرف قلبه وتفكيره عن ما يعانيه، فإن المقولة تستحق التوقف والنقاش.
أما الشاعر والأديب وابن الدبلوماسية السعودية غازي القصيبي، رحمه الله، فيقول وكأنه يكمل منطق شكري: «..العمل لا يقتل مهما كان شاقاً، ولكن الفراغ يقتل أنبل ما في الإنسان..»، ما يدل حسب منطق القصيبي وبوضوح شديد، على أن الفراغ هو ما يجر الإنسان نحو التعاسة والبؤس أغلب الأوقات، لذلك فإن عليه أن ينشغل ويشتغل كي لا يعيش التعاسة بالتفكير فيما يتعسه ويقلقه وينقصه ويوتره!
والحقيقة فإن القول الأشهر الذي حفظناه منذ مراهقتنا من معلمينا في المدارس يقول (الشباب والفراغ والجدة، مفسدة للمرء أي مفسدة)، والفساد هنا ليس شرطاً أن ينحصر فقط في فساد الأخلاق والتصرفات والسلوكيات، وانصراف الذهن لما يقود للموبقات والانحراف، ولكن الفساد الأكبر هو فساد الوقت والروح والعقل، حين يفسد وقتك فلا تجد ما يسعد أو يسلي أو يبهج، لأن عقلك متوتر على الدوام، ومنشغل بالهم والبؤس والفشل وبمن أفضل منك وأجمل و و...
الفراغ يجعل كل أمر صغير ممكن تجاوزه حبلاً حول العنق يخنق صاحبه، وحبلاً من العراقيل أشبه بصخرة سيزيف يحملها صاحبها على كتفه، ولا يكاد يستطيع الخلاص منها، فكلما سقطت عاد وحملها ثانية كأنه في عقاب أزلي لا نهاية له!
الفراغ يضخم كل شيء كأشباح تتناسل من التفكير العقيم بلا جدوى، كما يضخم العاطفة، والتعب، والألم، بينما المنشغل بالسعي والعمل والخير والنجاح والطموح لا يكون عرضة لكل ذلك الهم والاكتئاب والغضب على كل ما حوله، والانفعالات السلبية تجاه كل شيء! المنشغل لا وقت لديه لكل هذه الانفعالات، فوقته محجوز للعمل والإنتاج.