منذ انتهاء الحرب الكورية باتفاقية هدنة وليس معاهدة سلام في يوليو 1953، لم يسبق للنظام الكوري الشمالي أن نشر قواته خارج حدود البلاد.
صحيح أنه كثيراً ما مارس الشغب بحق جيرانه في صورة إطلاق صواريخ باليستية أو إجراء تجارب نووية أو الشروع في مناورات عسكرية مستفزة، وصحيح أنه أسهم في تعزيز قوة بعض الأنظمة المارقة الشبيهة له، من خلال تزويدها بالأسلحة والعتاد والخبرات التقنية والمستشارين العسكريين أو بناء التحصينات والأقبية الحصينة، وصحيح أنه زود روسيا منذ اندلاع القتال بين الأخيرة وأوكرانيا بأكثر من مليون قذيفة مدفعية والكثير من الصواريخ الباليستية قصيرة المدى طبقاً لتقرير عسكري غربي، لكنه لم يتجاوزه بإرسال أبنائه للقتال خارج الحدود.
كما حدث مؤخراً حينما أفادت تقارير صادرة من جهاز المخابرات الوطنية في كوريا الجنوبية (NIS) بأن بيونغيانغ نشرت 12 ألف جندي في روسيا دعماً لعمليات موسكو العسكرية ضد أوكرانيا، وأنها بدأت في إرسال هذه القوات الخاصة في الفترة ما بين 8 و13 أكتوبر المنصرم بعد تجهيز أفرادها بالزي الرسمي للقوات الروسية وهويات مزورة تساعدهم على الاندماج مع السكان المحليين، وتخفي عن العالم تورطهم في الحرب.
ومن هنا قيل إن الحدث يشكل سابقة خطيرة وتطوراً مهماً في الجغرافيا السياسية الدولية، بل يمثل أول حالة ترسل فيها حكومة أجنبية قوات رسمية لدعم الغزو الروسي لأوكرانيا.
حيث إن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) اكتفت حتى الآن بإرسال مستشارين عسكريين ومعدات حربية لمساعدة الجانب الأوكراني فالحدث لئن عمق التعاون العسكري بين بيونغيانغ وموسكو، تنفيذاً للشراكة الاستراتيجية واتفاقية الدفاع المشترك التي تم إبرامها بين البلدين إبان زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيونغيانغ في شهر يونيو 2024، إلا أنه يثير مخاوف بشأن تطور ديناميات الصراع في أوكرانيا باتجاه تورط قوى خارجية بعيدة جغرافيا.
وبعبارة أخرى، فإن هذه الخطوة من جانب كوريا الشمالية قد تؤدي إلى تغيير مسار الحرب، وبما يخلق ضغوطاً على الدول الغربية وعلى كوريا الجنوبية أيضاً لتغيير سياستها المعلنة الخاصة بعدم توفير معدات عسكرية هجومية فتاكة بعيدة المدى للجيش الأوكراني.
ويبدو أن هذه الضغوط قد بدأت بالفعل على إدارة الرئيس الكوري الجنوبي «يون سوك يول» لجهة السماح بالتبرع بالأسلحة لأوكرانيا من مستودعات الجيش الكوري الجنوبي.
ومن شأن ذلك ــ إنْ حدث فعلاً ــ أن يؤثر سلباً على العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وسيئول، حيث إن تجارة روسيا الاتحادية مع كوريا الجنوبية لا تزال مرتفعة بسبب واردات الطاقة والمواد الخام، ولم تتأثر كثيراً بالعقوبات الغربية على الروس، حيث إنها تتم عبر دول آسيا الوسطى.
المراقبون الذين تحدثوا عن الخطوة الكورية الشمالية تطرقوا إلى الفوائد التي ستجنيها بيونغيانغ من انخراطها في الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وخلاصتها تأمين دفعات نقدية أو عينية لكل جندي كوري مشارك.
وتعزيز العلاقات مع الروس وضمان الحصول منهم على مساعدات تكنولوجية آمنة وعلى دعم سياسي يخفف من العقوبات الدولية المفروضة على نظام «كيم جونغ أون» الاستبدادي، وحصول القوة المشاركة في الحرب على تجربة قتالية حربية حديثة وواقعية، واختبار البلاد لأسلحتها ميدانياً.
لكن هؤلاء المراقبين تطرقوا أيضاً إلى الجوانب السلبية للانخراط الكوري الشمالي في الحرب والمتمثلة في احتمال حدوث انشقاقات من الخدمة من قبل الجنود في صورة هروب فردي أو جماعي إلى الجانب الأوكراني فراراً من القمع والفقر والاستبداد في الوطن أواحتمال فشلهم في ميدان القتال وسقوط أعداد كبيرة منهم قتلى أو جرحى بسبب القتال في بيئة مختلفة عن بيئة شبه الجزيرة الكورية أو بسبب انعدام لغة تفاهم مشتركة مع القوات الروسية، ناهيك عن حقيقة قدومهم من دولة فقيرة واستبدادية وبالتالي افتقارهم إلى التجهيز والحافز.
في المقابل هناك من المراقبين في الشطر الكوري الجنوبي من أعرب عن شكوكه في المعلومات التي صدرت عن جهاز المخابرات الوطنية في سيئول، واصفاً إياها بالمعلومات المضخمة والمستقاة من مصادر غربية وأوكرانية لتبرير تنسيق أمني أوثق مع الولايات المتحدة والحلفاء.
وفي رأي هؤلاء أن أعداد الجنود الذين أرسلتهم بيونغيانغ إلى روسيا ليست مؤكدة، وقد تكون أرقاماً متوقعة وليست فعلية، وقد يضطلعون بمهام وأدوار غير قتالية مثل استخدامهم في دوريات الحدود وعمليات الحراسة الخلفية بدلاً من الخطوط الأمامية. وبكلام آخر، يدعو هؤلاء المشككون إلى إرجاء الحكم حتى ظهور المزيد من الأدلة على تورط بيونغيانغ في حرب أوكرانيا من مصادر مستقلة أو دولية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي