أغنية «يا نبعة الريحان» التي تقول مقدمتها:
يا نبعة الريحان حني على الولهان
جسمي نحل والروح ذابت وعظمي بان
من علتي البحشاي ما ظل عندي راي
جرحي صعب ودواي ما يفهمه إنسان
حاير أنا ظليت ما ادري ذنبي ايشجان
تعد من أروع أغاني الطرب العراقي الأصيل التي غناها الكثيرون داخل العراق وخارجه.
وعلى الرغم من قدمها، إلا أنها تتردد إلى اليوم، ويتردد معها اسم أول من غنتها وهي المطربة العراقية اليهودية «سليمة مراد»، التي ولدت بمحلة طاطران ببغداد في بدايات القرن العشرين، وكانت أول سيدة تمنح لقب باشا بأمر من رئيس وزراء العراق الملكي نوري باشا السعيد بسبب إعجابه بصوتها.
إلى ما سبق، تعد سليمة باشا مراد، التي لقبها الأديب المصري زكي مبارك بـ «ورقاء العراق»، أول مطربة عراقية تركب الطائرة للسفر إلى باريس سنة 1936، ومن أوائل الفتيات اللواتي اقتحمن الإذاعة العراقية للغناء، وأول فنانة تفتح في بيتها ببغداد صالوناً ثقافياً لجمع كبار الأدباء والشعراء والساسة ومتذوقي الفنون الأصيلة، وأول من تعرفت من مطربات العراق على أم كلثوم أثناء زيارة الأخيرة لبغداد سنة 1935، حيث غنت أمامها أغنية «قلبك صخر جلمود ما حن عليّ» التي أعجبت أم كلثوم فسجلتها بصوتها على اسطوانة تعتبر اليوم من النوادر.
تعرفت مراد على الجوق العراقي وعلى الجالغي البغدادي، وعلى مشاهير المطربين والعازفين وكتّاب الكلمة المؤثرة في زمنها، وكان من بين هؤلاء الشاعر والكاتب البغدادي عبد الكريم العلاف (1894 ــ 1969) الذي كتب لها أجمل أربع أغنيات من أغانيها الخالدة وهي: «قلبك صخر جلمود»، و«يا نبعة الريحان» و«خدري الشاي خدريه»، و«على شواطي دجلة»، وجميعها من ألحان صالح عزرا يعقوب أرزوني الشهير بصالح الكويتي، المطرب والملحن العراقي اليهودي المولود في الكويت سنة 1908 والمتوفى في إسرائيل سنة 1986.
لكن لمراد أيضاً أغنية جميلة أخرى تعد صرحاً شامخاً في المنظومة الموسيقية العراقية هي أغنية «أيها الساقي إليك المشتكى»، التي غنتها سنة 1937، وهي من كلمات الشاعر والطبيب الأندلسي ابن زهر الحفيد، وألحان الموسيقار العراقي اليهودي سليم النور (1920 ــ 2014) الذي عاصر جيل الفطاحلة من فناني العراق قبل أن يهاجر مضطراً إلى إسرائيل في عام 1950.
توفيت مراد في أحد مستشفيات بغداد عصر الثامن والعشرين من يناير 1974، وهي تكتم في نفسها حسرتها ولوعتها على وفاة زوجها ورفيقها ومعلمها الفنان الكبير ناظم الغزالي الذي سبقها إلى دار الآخرة في 23 أكتوبر 1963 والذي تعرفت عليه لأول مرة في حفل بمنزل إحدى العائلات البغدادية المعروفة في الثامن من يناير 1952، ثم تزوجته في العام التالي، رغم أنه كان يصغرها بـ 16 عاماً وصارا مذاك يتعاونان كل يوم حتى ساعات الليل المتأخرة على حفظ المقامات والأغاني والبستات وغنائها، بل سافرا معاً في عام 1958 إلى باريس ولندن لإحياء حفلات غنائية للمغتربين العراقيين في هاتين العاصمتين.
ونختتم بما نشرته «المجلة العربية» في أحد أعدادها عن سر جمال «يا نبعة الريحان» التي كتبها العلاف وهو راقد في أحد مستشفيات بغداد على إثر تعرضه لحادث مروري.
حيث اختار أن يشبه حبيبته بالريحان لما في هذه النبتة العشبية الحولية من مواصفات ومزايا مثل الرائحة العطرية، والطعم اللذيذ، والسيقان الطويلة، والشكل الرشيق، ناهيك عن الاخضرار والنضارة والتورد.
ثم راح يشكو لها ولهه وعذابه وسقمه وذوبان روحه وآلام عظامه، مطالباً إياها أن تحن عليه بنظرة أو لقاء أو زيارة، ومبيناً أن ما أصابه تعدى المرض إلى فقدان التمييز والعقل بحيث أصبح لا رأي له، وصارخاً بأن داءه صعب لا يعرفه إنسان ويستحيل إيجاد دواء له، ومتسائلاً عما جناه كي يعاني كل هذه المعاناة.