ارتبط اسم البحرين منذ القدم باللؤلؤ، فوصفوها بـ «هبة اللؤلؤ» و«دانة الخليج»، ووجدت كتابات ونقوش وأساطير في الحضارات القديمة تشير إلى عمق ارتباط الإنسان في البحرين بالغوص على اللؤلؤ في حياته ومعاشه وثقافته وتجارته منذ آلاف السنين.
ويمتاز اللؤلؤ البحريني عن غيره بنقائه وجماله ولمعانه واستدارته وصلابته لسبب يكمن في أن أمواج البحر في شواطئ البحرين أكثر هدوءاً وأقل ارتفاعاً عن باقي منطقة الخليج، مما يجعل نمو المحار أكثر اتساقاً وتطوراً، وأكثر لمعاناً وأكثر كثافة، وأكثر سمكاً عن باقي لآلئ المنطقة، هذا ناهيك عن سبب آخر هو كثرة عيون الماء العذبة (الكواكب) المحيطة بجزر البحرين، طبقاً لما ورد في كتب الرحالة والأدباء الذين زاروا البحرين والخليج في فترات متفرقة من أمثال الإدريسي وابن بطوطة. ولهذا كان اسم البحرين مرادفاً للؤلؤ الطبيعي الجيد، وذاعت شهرته في أسواق المجوهرات في العالم وكثر الطلب عليه لأن ثمنه عند البيع مجز جداً.
وفي العصر الحديث شكل صيد اللؤلؤ وما ارتبط به من أعمال، صناعة قائمة بذاتها، ومصدراً رئيسياً للدخل وفرص العمل لسكان البحرين (في مطلع القرن العشرين مثلاً قدرت نسبة اللؤلؤ المصدر من البحرين بحوالي 97% من مجموع اللؤلؤ المصدر من الخليج العربي)، واستمر اللؤلؤ يشكل، حتى تاريخ اكتشاف النفط في البلاد عام 1932، مصدراً من المصادر المهمة لإيرادات الدولة، خصوصاً وأن البحرين، ولا سيما جزيرة المحرق، كانت على مدى عقود طويلة من الزمن، من أشهر مراكز اللؤلؤ في الخليج العربي، وأكبرها لجهة أعداد الطواويش والغواصين وأعداد سفن الصيد وبناتها وأعداد المتاجرين، وأكثرها ازدهاراً لجهة الصناعات ذات الصلة.
وعلى هامش هذه الصناعة والرافد الاقتصادي المهم، نشأت فنون غنائية واستعراضية، وتداولت قصص وحكايات وأساطير، ووضعت قوانين وأنظمة، وكتبت مسرحيات وأشعار، وظهرت مصطلحات، وصولاً إلى بناء المتاحف الخاصة بتاريخ اللؤلؤ.
والمعروف أن اقتصاد اللؤلؤ، في البحرين وعموم الخليج، لم يشهد تراجعاً ومن ثم انهياراً إلا في ثلاثينيات القرن العشرين مع اكتشاف النفط وانتشار اللؤلؤ الصناعي الذي اكتشفه العالم الياباني ميكوتو في عام 1912. ومن العوامل الأخرى التي تسببت في إزاحة اللؤلؤ عن عرش الاقتصاد الخليجي نهائياً مع مطلع الخمسينيات، اضطراب أسواقه في الهند (التي كانت حتى ذلك التاريخ من أكبر أسواقه والمقصد الأول لطواويش الخليج) نتيجة لقيام حكومة الهند المستقلة بمنع استيراد الكماليات ومنها اللآلئ.
وبطبيعة الحال، لم يكن صيد اللؤلؤ واستخراجه بالنشاط السهل. إذ اقترن بصعوبات جمة ورافقته قصص وحكايات مأساوية، ومعاناة شديدة كابدها الإنسان البحريني والخليجي بالصبر والإيمان. تقول الإعلامية ليلى سلامة في تقرير لها عن اللؤلؤ لصالح قناة «سي إنْ إنْ» الأمريكية: «اعتبرت رحلة البحث عن اللؤلؤ الطبيعي بمثابة إرث عريق ممزوج بعبق التاريخ العتيق في أغاني البحر، وكأنه من لؤلؤ «الجيوانا» يمتد عبر البحار حتى يروي حكاية اللؤلؤ والبحر والإنسان. وامتزجت دقات قلب الغواص وأنفاسه المقبوضة تحت الأعماق بلمسات ذلك الكائن البراق، وتقرحت قدماه من لسعات قنديل البحر لكي يخرج بلآلئه نحو نور الشمس».
ويزخر تاريخ البحرين خصوصاً، وتاريخ الخليج عموماً، بأسماء العديد من الشخصيات التي كان لها باع طويلة ودور مؤثر في اقتصاد اللؤلؤ. بل، لعبت بحكم ما صنعته من ثروة ومكانة، أدواراً اقتصادية واجتماعية وخيرية وتنويرية في مجتمعاتها.
كانت تلك خلفية معلومات موجزة عن البيئة الاقتصادية التي عاش وعمل فيها أحد طواويش البحرين المعروفين بخبرته الطويلة في تصنيف وتقييم وتثمين اللؤلؤ البحريني الطبيعي، والذي سيكون محور حديثنا هنا وهو الطواش الحاج «عبد الرسول بن محمد بن عبد الرسول بن عباس البلادي البحراني الخزاعي»، حيث البحراني نسبة إلى البحرين، والبلادي نسبة إلى مكان إقامته ونشأته الأولى بقرية «البلاد القديم» (إحدى القرى القديمة إلى الجنوب من العاصمة المنامة)، والخزاعي نسبة إلى قبيلة خزاعة التي تنحدر أسرته منها، حيث إنها تنسب إلى الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي (ت: 50 للهجرة). كما عرف الحاج عبد الرسول باسم «عبد الرسول الطواش» نسبة إلى مهنته.
ومهنة الطواشة، لمن لا يعرفها، مهنة تقليدية قديمة مارسها أهل البحرين والخليج وأجادوها، حيث يقوم ممتهنها بالتنقل بين السفن في عرض البحر لشراء أجود أنواع اللؤلؤ بعيد استخراجه من مغاصاته المعروفة، أو يقوم بالتنقل بين نواخذة الغوص بعد عودتهم لشراء محاصيلهم والمتاجرة بها، علماً أن هذه المهنة توقفت تماماً منذ منتصف القرن العشرين.
ولد الحاج عبد الرسول في المنامة سنة 1912، ولداً بكراً لوالده محمد بن عبد الرسول بن عباس، الشخصية المعروفة بالأناقة والهيبة واللباقة والأخلاق الكريمة والسيرة الحسنة التي عملت في تجارة اللؤلؤ في الفترة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتي عرف عنها كثرة السفر إلى بنادر «قيس» و«لنجة» على الساحل الجنوبي لبلاد فارس، من أجل جلب أنواع «القماش» (القماش هنا هو الاسم الذي يطلق على اللؤلؤة متوسطة الحجم، والواحدة منها تسمى قماشة)، وكثرة السفر أيضاً إلى عُمان لوجود فنيين ومختصين بها في مجال المجوهرات واللآلئ، ولتوفر المستلزمات الخاصة بتجارة اللؤلؤ وأوزانه.
ومحمد عبد الرسول (والد المترجم له)، من ناحية أخرى، هو من تولى تنظيم أمور عائلته على مدى سنوات طويلة ونقل مكان إقامتها من قرية «البلاد القديم» إلى فريج «راس رمان» (حي من أحياء العاصمة عرف بهذا الاسم بسبب مشاتلها من الرمان قديماً)، وبنى بها بيت العائلة الكبير ومجلس العائلة العامر سنة 1915 بمشاركة أخيه وعضيده الحاج جاسم عبد الرسول.
ومنذ طفولته بدأ الحاج عبد الرسول يعمل مع والده الطواش الكبير الحاج محمد في تجارة اللؤلؤ، وذلك على عادة الأبناء قديماً في الالتحاق بمهنة آبائهم من أجل تعلم فنونها ومهاراتها كسباً للرزق.
وهكذا تعمقت، شيئاً فشيئاً، مهاراته في كل ما له صلة باللؤلؤ وصيده وتسويقه حتى أصبح اسماً لامعاً في هذا المجال، وانضم إلى تجار اللؤلؤ البحرينيين في سوق قديم بالمنامة كان يعرف باسم سوق الطواويش ومركزه «مقهى حسن المقوي» الذي كان عبارة عن زقاق طويل مغطى بسقف من الخوص وعلى جانبيه دكاكين، حيث كان لكل طواش دكاناً يزاول من خلاله مهنة فصل اللؤلؤ إلى مجموعات بحسب الحجم والجمال والجودة ثم وزن كل لؤلؤة بميزان خاص ثم وضع كل مجموعة داخل صرة قماشية بيضاء أو حمراء مع إحكام ربطها، استعداداً لتحديد أسعارها وتسويقها.
أما تعليمه فقد اقتصر على ما كان يدرس في زمنه من علوم القراءة والكتابة والحساب والقرآن في الكتاتيب التقليدية، لكن الحياة والأسفار، ولا سيما إلى الهند البريطانية، والتعامل هناك مع التجار المحليين والأجانب، والتعرف فيها على مظاهر الحضارة والمدنية، وحضور المجالس وما كان يدور فيها من أحاديث وأخبار وقصص وحكايات، ناهيك عن شغفه بقراءة كل ما كان يقع بين يديه من كتب ومطبوعات على قلتها، جعل منه إنساناً مثقفاً وملماً بمعارف متنوعة، وهو ما ساعده على مواصلة مهنة أجداده في تجارة اللؤلؤ بنجاح، وبالتالي خلق بصمة واضحة في تاريخ البحرين من خلال مساهماته المتعددة في الحياة التجارية والاجتماعية والدينية والثقافية.
حيث عمل كعضو في مجلس إدارة دائرة أموال القاصرين، وكوّن لنفسه ومعارفه وأصدقائه مكتبة واسعة زاخرة بأمهات الكتب في شتى المعارف، وقام بتأليف عدد من المؤلفات غلب عليها الطابع الديني الإرشادي مثل:«المسلم في دينه ودنياه»، و«تحفة المرآة»، و«تحفة الحاج»، وغيرها، الأمر الذي أكسبه لقب «صاحب التحف» كناية عن عمق معرفته وتدينه ونزاهته، وبروزه كمصلح ومرجع تاريخي لعوائل البحرين وأنسابها، خصوصاً وأن اشتغاله بتجارة اللؤلؤ ثم عمله كخبير في تصنيفه وتثمينه أتاحت له بناء روابط وصداقات قويه مع العائلات البحرينية المحرقية (نسبة لجزيرة المحرق) التي كان أربابها يمارسون الطواشة مثله، كعائلات «بوحجي» و«بن مطر» و«المناعي» و«بن هندي» على سبيل المثال.
وفي الوقت نفسه ساعدته، رحلاته المتكررة إلى مدينة «بمبي» الهندية وتردده هناك على سوق «موتي بازار» الخاص ببيع وشراء اللآلئ، على تكوين علاقات واسعة مع النبلاء الأوروبيين والأعيان والأمراء الهنود من تجار اللؤلؤ والمجوهرات النفيسة في العالم، وتبادل الخبرات معهم.
ولعل ما يثبت قيام الرجل بتلك الأسفار إلى الهند البريطانية وغيرها من الأقطار هو حرصه على كتابة مذكرات سفره، ثم إهداء بعضها لأصدقائه ومعارفه من باب نقل تجاربه ومشاهداته ومعاملاته لهم تبصيراً وتثقيفاً، في زمن لم تكن فيه وسائل المعرفة والتثقيف والتصوير والتواصل متاحة كما اليوم.
ونظراً لما راكمه من خبرة طويلة في مجال اللؤلؤ، وبسبب شغفه بمهنته وحبه وإخلاصه لوطنه البحريني، لعب الحاج عبد الرسول دوراً مهماً في الحفاظ على تاريخ اللؤلؤ الطبيعي البحريني وجودته ومكانته. لذا لم يكن مستغرباً أن تستعين به إدارة الجمارك البحرينية لفحص اللؤلؤ المستورد تفادياً للغش والتزوير، أو لتثمينه تثميناً صحيحاً منعاً للمبالغة في أسعاره، أو كشفاً عن اللؤلؤ الصناعي الياباني الذي حظرت حكومة البحرين استيراده.
كان الحاج عبد الرسول في حياته الخاصة وعلاقات مع الآخرين مثالاً للإنسان الخلوق التقي الورع المتواضع البسيط الزاهد، والملتزم بأهداب الدين، ما جعله محبوباً بين أهل البحرين من مختلف الأطياف والملل والنحل. إلى ذلك، عرف عنه إسهاماته في خدمة المساجد ودعم فعالياتها من ماله الخاص دون منة.
وفي تقرير عنه نشرتها صحيفة «البلاد» البحرينية (16/3/2024) تحت عنوان «راحلون وبصماتهم باقية»، تخبرنا الصحيفة أن الحاج عبد الرسول «كان أيضاً من محبي الزراعة، وامتلك وأدار في حياته أراضي زراعية واسعة ذات منتوج زراعي متميز في مناطق متعددة أهمها قرية كرزكان (قرية تقع على الساحل الغربي لجزيرة البحرين واشتهرت قديماً بعيونها العذبة)، التي كان له مع أهلها الكثير من الود والمواقف التي لا ينساها ذلك الجيل».
توفي الحاج عبد الرسول في الثامن من أبريل عام 1988، بمستشفى السلمانية في المنامة عن عمر ناهز ستة وسبعين عاماً، على إثر تعرضه لارتفاع حاد في الضغط، تاركاً خلفه أعمالاً جليلة وسيرة حسنة من الكرم والأخلاق والطيبة والنزاهة، وعائلة كبيرة كريمة من الأبناء والأحفاد. إذ أنجب سبع بنات وثمانية أولاد (هم حسب ترتيبهم العمري: المرحوم حسن، المرحوم حسين، عبد الحميد، المرحوم ميرزا، علي، المرحوم إسماعيل، ومحمد).
ومن أشهر أحفاده: سفير البحرين الأسبق في ألمانيا المرحوم الدكتور أحمد عباس الخزاعي، والمستشار السياسي المتخصص في الشؤون الأمريكية الدكتور أحمد علي الخزاعي، ومدرب التنس الدولي عزيز الخزاعي، والرئيس السابق لمجلس أمانة العاصمة المهندس محمد علي الخزاعي، والكاتبة والفنانة التشكيلية أماني الطواش.