ذكر المختص في دراسة ظاهرة التطرف «الجهادي» شارل ليستر أنه «على مدى سنوات، كانت الفكرة السائدة بشأن سوريا هي أن الأزمة قد تم احتواؤها، بناءً على ذلك، تراجع اهتمام المجتمع الدولي بسوريا وبدأت الموارد تحول إلى أماكن أخرى».
وكلام ليستر قد يفسر بعض أسباب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ولكنه يفتقد إلى الدقة والإلمام بشمولية أسباب انهيار الدول، ويذهب الظن بأغلب الدارسين لتاريخ نشأة الدول وانهيارها إلى البحث والتركيز على العوامل الداخلية وبأن العوامل الخارجية قد تساعد على نشأة وتماسك واستمرار الدول أو على انهيارها، ولكن هذه العوامل لا تكون في الغالب هي الحاسمة.
وقد يكون من البديهي تفسير تصاعد وتيرة سقوط نظام بشار الأسد بضعف الإسناد السياسي والعسكري التقليدي الإقليمي والدولي، ولكن عوامل السقوط كامنة في الداخل السوري وهي تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة في هذا البلد الذي صمد لحين أمام موجة «الربيع العربي».
والمهم أن أنظار بعض القوى الإقليمية وبعض أدواتها التنفيذية لم تغب مطلقاً عن المتابعة الدقيقة لمجريات الأمور في سوريا، وهي لذلك استغلت تراخي الإسناد الدولي التقليدي لأسباب موضوعية ومعلومة ومتعلقة بصعوبة الوضع الروسي نتيجة حرب أوكرانيا وضعف ما يسمى بـ«محور المقاومة» جراء تداعيات عملية «طوفان الأقصى».
وبالطبع انطلقت العملية تحت شعار «تحرير سوريا» وإرساء «الديمقراطية» فيها، وكانت النتيجة أن السلطة في سوريا أصبحت بين أيدي قوى جهادية إخوانية متطرفة بما يهدد وحدة وسلامة واستقرار وتنوع المجتمع السوري رغم كل الوعود «المطمئنة» التي أرسلها الحكام الجدد في سوريا إلى الغرب الليبرالي الذي ينصب همه الوحيد على ضمان حصر النشاط الجهادي في سوريا دون إمكانية التوسع إلى الدول والمجتمعات الغربية.
وأما عن المسألة الديمقراطية، فإن شواهد التاريخ والتجارب المقارنة تثبت بما يقطع الشك باليقين، أن حركات «الإسلام السياسي» والحركات الإخوانية عموماً لم تكن أبداً حاملة لمشروع ديمقراطي مهما كان شكله ومهما كانت محدوديته، ذلك أن الديمقراطية تفترض وجوباً وجود ديمقراطيين، وهو ما يجمع الدارسون والملاحظون على أنه الغائب الرئيسي في «الفكر الإخواني» على اعتبار أن الديمقراطية في حكم مؤسسي الظاهرة الإخوانية «بدعة» و«ضلالة» و«مصير معتنقيها النار».
وإن المتابع لتداعيات هذا التحول الكبير في سوريا في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية يلاحظ تركيزهم على حصر نطاق جغرافية «النشاط الجهادي» في سوريا دون غيرها، وهم لذلك لم يناقشوا من حيث المبدأ مسألة الطابع الإرهابي للنشاط الجهادي مهما كانت رقعته الجغرافية وبالخصوص احتمال توسعه ليشمل دولاً إقليمية أخرى، لأنه لا ينبغي بحالٍ التغافل على أن الحكام الجدد في سوريا اعتبروا انتصارهم في سوريا، «نصراً لأمة الإسلام» مثلما جاء على لسان زعيمهم في جامع الأمويين بدمشق في اليوم ذاته الذي دخلوا فيه العاصمة السورية.
الملاحظ أيضاً، أن الحديث في المنابر الغربية كثر حول درجات التطرف، والغاية هي «إقناع» الذات بأن الظاهرة الجهادية ليست واحدة، وليس كل من انخرط في النشاط الجهادي متطرفاً بالضرورة، وينسى الغرب الليبرالي أن التطرف الإخواني هو متأصل في الفكر والممارسة، وبأن خطاب الانفتاح النسبي على الآخر في الخطاب والممارسة يمليه فقط حالة الضعف الوقتي، وهو إلى ذلك من شروط التمكن التي تزول بمجرد الوصول إلى الهدف، أي السلطة والحكم، وكل التجارب الإخوانية في العالم تؤكد وتدعم ذلك.
وللحق والحقيقة، فإن تجارب الحكم وسلوكيات بعض الحكام في عدد من الدول لم تستوعب الأهمية الاستراتيجية لوضع أطر ديمقراطية تسمح للمواطن بالمشاركة في الشأن العام، وتسد بذلك الطريق أمام التطرف بكل أشكاله وتداعياته، وإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن التجارب تستنسخ وتكرر نفسها بشكل مأساوي، وهو ما يقوي من هشاشة هذه الدول التي يفتقر أغلبها إلى موديلات تنمية تحقق كرامة ورفاهية شعوبها، وتضمن حقه في التمتع بقدر من الحرية يمكنه من تحقيق ذاته ويقيه مخاطر التطرف بجميع أشكاله، وهو ما يجعل من التطورات في سوريا شأناً إقليمياً ودولياً، كما سيتبين بعد حين.