صوّت البرلمان الألماني على طلب المستشار أولاف شولتز طرح الثقة بالحكومة، ولم تحصد حكومة شولتز سوى 207 أصوات من أصل 367 مطلوبة لحيازة ثقة البرلمان، وامتنع عن التصويت أكثر من مئة صوت أغلبهم من حلفاء شولتز في الحكومة الحالية.
وكما يبدو أنّ شولتز خطّط لحجب الثقة عن الحكومة في جلسة البرلمان التي عقدت يوم الاثنين الماضي، ويستعدّ شولتز لخوض غمار هذه الانتخابات المبكرة أملاً في الفوز بأغلبية تمكّنه من الحُكْمِ بعيداً عن ضغوطات معارضيه الليبراليين.
ويُدخل انهيار الائتلاف الحكومي بزعامة شولتز ألمانيا في أزمة غير مسبوقة ستكون لها، بحسب ما تتناقله المنابر الإعلامية والسياسية الغربية، تداعيات كبرى في ألمانيا وفي أوروبا عموماً لجهة أنّها قد تُعيد تشكيل المشهد السياسي في هذه الدولة المحورية داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك في ظرف دولي بالغ الحساسية بالنسبة لألمانيا وأوروبا عموماً، وفي ضوء حالة المدّ اليميني المتطرّف الذي يغزو أوروبا وعدداً آخر من دول العالم في العلاقات الدولية، ليس أقلّها الولايات المتّحدة الأمريكية بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة.
ولعل حساسية وخطورة الأزمة السياسية في ألمانيا والتداعيات المحتملة للانتخابات المقبلة تأخذ بعداً إضافياً بتزامنه مع الأزمة السياسية التي تعصف بفرنسا الآن والتي عنوانها الأبرز غياب التوافق على تشكيل حكومة تمتلك أغلبية داخل البرلمان بما لا يُعيق، كحدّ أدنى، إقرار ميزانية الدولة للعام 2025، ومعلوم أنّ المحور الألماني الفرنسي يعتبر حجر الزاوية في منظومة الاتحاد الأوروبي وهو المحور الذي قد يكون الحاسم في استمرار وجود هذا الاتحاد الأوروبي.
وبالتمعّن في مآلات الأزمة السياسية في البلدين تنكشف المخاطر المحتملة من تداعيات الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في كل من ألمانيا وفرنسا، وهي انتخابات من الممكن أن تؤدّي إلى فوز اليمين المتطرّف في فرنسا وتقوي حظوظه أكثر في ألمانيا، بما سيكون له تداعيات مباشرة على وحدة وتماسك الاتحاد الأوروبي مستقبلاً وبما ستكون له، إضافة إلى التغييرات الكبرى على المشهد السياسي الداخلي للدولتين، آثار بالغة على الحرب الروسية الأوكرانية وعدد من النزاعات الدولية الأخرى ومسألة الهجرة الدولية، وقد يمسّ أيضاً الأركان الفكرية للمنظومة الليبرالية لجهة تناقضاتها المحتملة مع الخلفية السياسية والفكرية لقوى التطرّف اليمينية والشعبوية الصاعدة في كلّ من فرنسا وألمانيا وعدد آخر من الدول الأوروبية وغيرها.
ومع اقتراب دونالد ترامب من تسلّم مقاليد السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية تزداد الأمور تعقيداً بالنسبة لتماسك ووحدة الاتحاد الأوروبي والذي بدأ يفقد بالتدريج مركزه المحوري في منظومة العلاقات الدولية المؤثّرة في العالم لصالح قوى إقليمية ودولية أخرى أهمّها على الإطلاق الصين ومنظومة الجنوب الشامل التي تتشكّل على أساس اقتصادي وسيادي وتزداد ثقلاً ونفوذاً مع مرور الوقت.
وقد تكون هذه التطورات هي من قصص النجاح الاستراتيجي للولايات المتحدة التي لم تكن تنظر بعين الرضا لتشكل الاتحاد الأوروبي ولا لأي تجمع إقليمي أو دولي آخر قد يهدد مصالحها القومية والاستراتيجية، ولا يخفى أنها لا تقبل بهذه التجمعات والتنظيمات إلا في الحدود التي لا تتضارب مع مصالحها.
إن حالة المخاض التي يعيشها العالم تؤكد أن مرحلة القطب الواحد أصبحت من الماضي وأن العالم مقبل لا محالة على عالم متعدد الأقطاب وبأن الشروط الموضوعية أصبحت جزءاً من الواقع المعاش، ولا مناص من الاعتراف بأن حالة المخاض هذه تتسم بحدة السلوك وبالعودة القريبة للعنف في العلاقات الدولية وبتراجع المخزون القيمي للمنظومة الليبرالية، وبالمد المخيف للفكر القومي المتطرف والذي لا يستثني أي أداة لتحقيق أهدافه في الوصول إلى الحكم والسلطة.
وإن الحديث عن موت الأيديولوجيا بات مجرد أمنية لغلاة الفكر الليبرالي سرعان ما كذبتها الوقائع والأحداث في عدد من الدول والمجتمعات والتطورات الدراماتيكية في العلاقات الدولية، ولكن الأكيد أن العالم يتحول إلى آخر قد لا يكون للأسف أرحب وأكثر أمناً واستقراراً ورفاهية.