تجعلنا أهمية التراث الثقافي نتشبث بجذورنا أمام التغييرات الكثيرة التي باتت تنحت في الهوية الثقافية للمجتمعات. وهذه المهمة، لم تعد تقتصر على الحفاظ على التراث بشكله المادي وغير المادي، بل باتت تقتضي منا التفكير بوسائل استشراف مستقبل هذه الهوية، وبذل المحاولات لفهم كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون أداة تسهم في استدامة التراث وتعزيز دوره في حياة الأفراد والمجتمعات.
وهنا يخطر ببالي طرح مفهوم جديد على الساحات الثقافية وهو «الاستبصار الثقافي»، الذي لم يقدم من قبل، وأقدمه كأداة فكرية واستراتيجية تهدف إلى استشراف التغيرات الثقافية والتقنية، وفهم أثرها على تراثنا المادي وغير المادي.
في الإمارات العربية المتحدة، حيث يُعتبر تراثنا جزءاً لا يتجزأ من هويتنا الوطنية، تصبح الحاجة إلى «استبصار ثقافي» أكثر إلحاحاً، حيث خطت الإمارات خطوات ملحوظة في الحفاظ على التراث بدءاً من تسجيل عناصره في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو، إلى إقامة الفعاليات والأنشطة التي تحيي الموروث الشعبي والثقافي.
لكن مع التطور الهائل في تقنيات الرقمنة، والواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي، يطرح السؤال نفسه: كيف يمكننا استخدام هذه الأدوات ليس فقط لحماية التراث، ولكن أيضاً لإعادة تعريفه بما يجعله أكثر ارتباطاً بواقعنا المعاصر ومستقبلنا؟
إن هذه التقنيات تقدم فرصاً غير مسبوقة لاستكشاف أبعاد جديدة للتراث الثقافي، من خلال استخدام تقنيات الواقع الافتراضي، يمكننا إعادة بناء المواقع الأثرية التي طواها الزمن، لتصبح متاحة للجميع في أي وقت ومن أي مكان.
هذه الخطوة مهمة لخلق تجربة غامرة تعيد الحياة إلى التقاليد القديمة وتُشعر الأجيال الجديدة بارتباطها العميق مع جذورها الثقافية. كما أن الذكاء الاصطناعي، من خلال تحليله للبيانات الثقافية، يمكن أن يساعد في فهم الأنماط التاريخية والتنبؤ بكيفية تطور الممارسات الثقافية في المستقبل، مما يمكّننا من اتخاذ قرارات أكثر وعياً واستدامة.
ورغم الفوائد الواضحة لهذه التطورات، فإن استخدام الاستبصار الثقافي في فلسفة التراث الثقافي يواجه تحديات كبيرة، أول هذه التحديات هو صعوبة التنبؤ.
فالثقافة كائن حي، معقد ومتداخل العوامل، ويتأثر بعدد لا يُحصى من المتغيرات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية، هذا يجعل أي محاولة لتوقع المستقبل الثقافي بدقة أشبه برحلة في المجهول. هناك أيضاً الخوف من أن يؤدي الاعتماد الكبير على التكنولوجيا إلى فقدان التراث لأصالته، فقد يتحول التراث إلى مجرد نسخة رقمية، خالية من البعد الروحي والمادي الذي يُكسبه قيمته الحقيقية.
كيف يمكننا أن نضمن أن تجربة افتراضية لمجلس تراثي إماراتي، على سبيل المثال، ستكون بنفس العمق الذي يمكن أن يشعر به المرء عند الجلوس في مجلس حقيقي، حيث تتناغم الروائح والأصوات والأجواء الأصيلة مع المضمون؟
تأتي أيضاً المشكلات الأخلاقية لتضيف تعقيداً آخر، فالتراث الثقافي ملك جماعي للشعوب، لكنه في الوقت ذاته يصبح في العالم الرقمي ساحة مفتوحة للتفسير وإعادة الإنتاج. من يملك الحق في تقديم التراث؟ ومن يحدد الطريقة التي يُروى بها؟ هذه الأسئلة تثير قضايا حول حقوق الملكية الثقافية وكيفية الحفاظ على حرمة التراث عند نقله إلى العالم الرقمي.
رغم هذه التحديات، أرى أن إدخال مفهوم الاستبصار الثقافي إلى فلسفة التراث الثقافي في الإمارات يمثل فرصة ذهبية لإعادة النظر في الطريقة التي نتعامل بها مع تراثنا. إن الاستبصار الثقافي يتيح لنا دمج الماضي والمستقبل، ليصبح التراث مورداً حيوياً يعزز من هويتنا الوطنية، ويلهم أجيال المستقبل. الإمارات، كدولة تضع الابتكار في صميم استراتيجياتها، يمكن أن تقود الطريق في هذا المجال، سواء من خلال توظيف التكنولوجيا، وكذلك من خلال تقديم نموذج ثقافي يُظهر كيف يمكن للتقدم التقني أن يكون أداة لتمكين الهوية الثقافية.
أتصور أن فلسفة التراث الثقافي في الإمارات بحاجة إلى نهج متعدد التخصصات، يجمع بين علم الاجتماع، والتكنولوجيا، والدراسات الثقافية، وحتى الاقتصاد والسياسة، ومن خلال ذلك يمكننا صياغة رؤية شاملة للتراث تجعله عنصراً أساسياً في بناء مستقبلنا. إن هذا التراث هو ما يوحّد مجتمعنا، ويعطيه روحه وخصوصيته، فيصبح الحفاظ عليه وحمايته مسؤولية أساسية لكل من المؤسسات وكل فرد، وكل أسرة، في المجتمع الإماراتي.
يبدو أن إدخال مفهوم الاستبصار الثقافي إلى فلسفة التراث ضرورة تفرضها متطلبات الحاضر وآفاق المستقبل، إنه أداة تسمح لنا بأن نعيد اكتشاف علاقتنا بتراثنا، وأن نحوّله إلى مصدر إلهام يمكننا أن نستلهم منه الحكمة في مواجهة تحديات العصر. فكما كان التراث دائماً مرآة لروح الشعب، يمكن أن يصبح اليوم بوصلته نحو مستقبل غني بالتنوع والإبداع الثقافي.