لتعليم البنات في دول الخليج العربية حكايات طويلة ذات شجون، كانت بدايته في صورة كتاتيب تقليدية تمارس عملها من داخل البيوت على أيدي نساء كن يلقبن بالمطوعات (جمع مطوعة)، وتقتصر الدراسة فيها على حفظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ الكتابة، لكن مع تغير الأحوال الاجتماعية والمعيشية، وانفتاح المجتمعات الخليجية على الخارج، وتزايد الوعي في صفوف الأسر بأهمية التعليم وضرورته لخلق أجيال سوية وقادرة على مجاراة العصر ومتطلباته، انتشرت مدارس البنات النظامية بحذر، وكانت البداية من البحرين التي افتتحت بها أول مدرسة حكومية للبنات بمدينة المحرق (مدرسة خديجة الكبرى) سنة 1928، وإن سبقتها مدرسة أسستها الإرسالية الأمريكية بالمنامة في عام 1899 على يد زوجة القس الأمريكي صمويل زويمر.
وفي الكويت تم افتتاح أول مدرسة لتعليم البنات في عام 1950 باسم «المدرسة القبلية». تلتهما المملكة العربية السعودية التي أنشئت بها أولى هذه المدارس في عام 1956 تحت اسم «دار الحنان» بجهود فردية من قبل الملكة عفت الثنيان آل سعود حرم الفيصل بن عبد العزيز، رحمهما الله.
أما دولة الإمارات فقد انطلق تعليم البنات فيها من إمارة دبي في سنة 1958 من خلال مدرسة الخنساء. وفي سلطنة عمان، ونظراً لظروفها الخاصة، فقد تأخر تدشين تعليم الإناث إلى عام 1970 مع بداية عصر النهضة والانفتاح على يد السلطان الراحل قابوس بن سعيد، رحمه الله.
أما تعليم الإناث في دولة قطر الذي قادته سيدة قطرية فاضلة ومتعلمة بسبب نشأتها في البحرين، حيث كان لأهلها الكرام أنشطة تجارية ومنازل، فقد بدأ بشكل رسمي في عام 1955 من خلال مدرسة أطلق عليها «مدرسة بنات الدوحة».
هذه السيدة الجسورة، التي ستكون محور حديثنا، هي «آمنة محمود الجيدة» التي توصف برائدة تعليم البنات في قطر والمعلمة القطرية الأولى، إذ يعود لها الفضل في نشر التعليم بين الفتيات القطريات في زمن كان فيه المجتمع يحارب مثل هذا التوجه.
فهي من امتلكت زمام المبادرة دون وجل أو خوف، وراحت تطوف على النساء في بيوتهن لتعلمهن حاملة مشاعل النور، قبل أن تفتتح في عام 1938 كتاباً تقليدياً داخل منزلها بمنطقة الجسرة لتعليم النساء والفتيات القرآن الكريم، وكان عددهن وقتذاك نحو 60 طالبة كن يفترشن الأرض في حلقة دائرية تتصدرها المعلمة آمنة المكناة بـ «أم علي»، فكانت الأخيرة تعلمهن وهي مرتدية «بطولتها» السوداء التقليدية وحاملة عصا طويلة لتؤدب بها الكسولات القريبات منها، وأخرى قصيرة لتحدف بها المشاغبات البعيدات.
وقتها لم تيأس سيدتنا الجسورة من مقاومة دعوات مقاطعة مدرستها التي كان يقودها ثلة من المحافظين والمتشددين، فعملت على إقناعهم بأهمية تعليم بناتهم وبأن العلم سلاح لهن تماماً كما للبنين، ونجحت في ذلك بدليل ارتفاع عدد المنتسبات إلى مدرستها إلى مائة طالبة، وكانت إحدى طالباتها آنذاك، هي من أصبحت في سنة 1996 أول وزيرة في تاريخ قطر الحديث، وهي المرحومة شيخة بنت أحمد بن علي المحمود (1945 ــ 2020) التي أمضت ما يربو على 30 عاماً في سلك التعليم طالبة ومعلمة وموجهة ومديرة مدرسة ووكيلة وزارة ثم وزيرة للتعليم.
وبينما «الجيدة» تحارب على جبهة محو الأمية والجهل من جهة وجبهة إقناع الأهالي المحافظين من جهة أخرى، راحت تطالب وتناشد السلطات المعنية بفتح مدارس نظامية للبنات أسوة بالبنين، فكان لها ذلك. إذ جاء الفرج في عام 1953 حينما استجاب المسؤولون في إدارة المعارف، وعلى رأسهم رئيسها المرحوم جاسم الدرويش لرغبات مجموعة من الأهالي، كانت الجيدة قد جمعت مطالبهم وتواقيعهم، بافتتاح مدرسة للبنات. على أن هذه الاستجابة كانت في البدء عبارة عن قرار بوضع كتاب آمنة الجيدة تحت الإشراف الحكومي، مع تزويده بكل احتياجاته.
وهكذا، يمكن القول إن مقر أول مدرسة حكومية للبنات في قطر كان في منزل آمنة الجيدة في عام 1955. وفي العام التالي، وبسبب ضيق المكان، انتقلت المدرسة إلى مبنى مستأجر من أملاك السيدة موزة الدرويش، وأطلق عليها «مدرسة بنات الدوحة الابتدائية» وتم تعيين الجيدة مديرة لها.
وفي الفترة ما بين عامي 1956 و1961، حدثت طفرة في عدد الراغبات في الالتحاق بالتعليم النظامي، وهو ما أدى إلى انتقال «مدرسة بنات الدوحة الابتدائية» إلى موقعها الحالي الأرحب في منطقة «مشيرب»، وأدت تلك الطفرة أيضاً إلى افتتاح مدرسة ثانية للبنات بمنطقة «البدع» تحت اسم «مدرسة أم المؤمنين»، لكن هذه المدرسة الثانية أغلقت لاحقاً وتم نقل كل طالباتها إلى «مدرسة بنات الدوحة». ولهذا السبب تم تغيير اسم المدرسة من «بنات الدوحة» إلى «أم المؤمنين»، وظلت الجيدة مديرة لها حتى تقاعدها في أواخر السبعينيات.
وخلال فترة عملها أضافت الجيدة إلى مدرستها العديد من المنشآت، وفي مقدمتها مكتبة مدرسية عامرة بالمؤلفات، وتخرجت على يدها أجيال من الفتيات اللواتي أصبح الكثير منهن مدرسات، وذلك قبل إغلاق مدرستها في عام 2005 لتحويل مبناها إلى «مركز مشيرب للفنون» من بعد ترميم واسع استغرق زهاء 3 سنوات.
ولدت «آمنة محمود يوسف محمد الجيدة» بمنطقة الجسرة من العاصمة الدوحة في عام 1913، وتلقت تعليمها على يد الملا حامد، أشهر معلمي الدوحة في الزمن القديم. ميلادها كان لأب هو محمود يوسف محمد الجيدة، الذي نشأ وعاش في فريج الفاضل بالمنامة، حيث كان والده وعمه وأبناء عمومته يعيشون ويعملون في الأنشطة التجارية ويرتبطون بعلاقات عمل وجيرة مع بعض وجهاء وأعيان البحرين البارزين.
ومن أبرز من عاش طويلاً في البحرين من آل جيدة، على سبيل المثال، الوجيه التاجر يوسف إبراهيم يوسف الجيدة (ابن عم والد المترجم لها) الذي تجنس بالجنسية البحرينية واقترن في المنامة بسيدتين بحرينيتين هما: لولوة بنت عبدالله فخري (توفيت عنده دون أن تنجب) وفاطمة علي يتيم أخت رجل الأعمال البحريني الكبير حسين علي يتيم، وتوفي في لندن سنة 1977 وتم دفنه في قطر.
وتعد أسرة الجيدة من الأسر القديمة التي استقرت في قطر وانتشرت في العديد من المناطق والمدن داخل قطر، ولا سيما منطقة الجسرة. وللأسرة صلات قرابة ومصاهرات ونسب مع أسر عدة من أصل واحد مثل: الجابر، الجفيري، فخرو، مفتاح، عبيدان، النعمة، العثمان، والدرويش.
وجميع هذه الأسر انتقلت في هجرات متتابعة من شبه الجزيرة العربية إلى الساحل الشرقي للخليج العربي وسكنتها طويلاً قبل أن تبدأ هجرة معاكسة إلى شبه الجزيرة العربية فراراً من الكثير من المسائل والعقبات والأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وقد انجبت عائلة الجيدة لقطر العديد من الأعلام في مجالات متنوعة، ولا سيما في المجال التجاري. فمن هؤلاء الطواش وتاجر اللؤلؤ «خليل إبراهيم يوسف الجيدة» (أحد أعمام المترجم لها) المولود عام 1923 والمتوفى في لندن سنة 2020، وهو من رجالات الرعيل الأول في قطر ممن عمل في الغوص على اللؤلؤ، ومن وجهائها المعروفين من ذوي الذكر الطيب في بلاده، وهو أيضاً مؤسس مجموعة الجيدة التجارية في عام 1959، والتي بدأت أعمالها في عام 1882 كمحل تجاري صغير في الدوحة لبيع المواد الغذائية المستوردة من الهند وإيران بحراً، علماً أن مجموعة الجيدة تعد اليوم من المجموعات التجارية الضخمة المؤلفة من شركات عدة عاملة في العقارات والطاقة والمعدات الثقيلة والسيارات والأجهزة الكهربائية والصناعية والخدمات الأمنية والإنشاءات وأنظمة المعلومات والأثاث وغيرها من القطاعات.
ومن هؤلاء أيضاً الوجيه جاسم محمد إبراهيم يوسف الجيدة الذي يترأس اليوم مجموعة الجيدة آنفة الذكر، ويعمل من خلالها بالمساهمة في مختلف مشاريع التنمية في قطر.
ومن شخصيات العائلة التي تمت بصلة قرابة بالمترجم لها «إبراهيم خليل إبراهيم يوسف الجيدة» صاحب الإسهامات الثقافية المتنوعة في المشهد القطري من خلال رئاسته لمجلس إدارة نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي، والذي قام بصفته هذه بتدشين موقع إلكتروني للنادي وتأسيس إذاعة خاصة به تحمل اسم الموسيقار القطري الراحل عبد العزيز ناصر العبيدان (1952 ــ 2016)، وإصدار مجلتي «التشكيل العربي» و«السينمائي»، وتوثيق الشعر العربي من خلال ألبومات شعرية حملت أسماء مثل «شعراء من قطر» و«شعراء من فلسطين» و«شعراء من العراق».
هذا ناهيك عن قيامه بتأسيس «دار الجيدة للنشر» والتي ساهمت في نشر المعرفة وفي إثراء المكتبة القطرية والخليجية والعربية بالعديد من الإصدارات. هذا علماً أن شقيقه الأكبر الأستاذ «ناصر خليل إبراهيم يوسف الجيدة» هو أيضاً من الشخصيات المثقفة البارزة، وشغل مناصب عدة منها عضوية مجلس الشورى وعضوية مجلس إدارة قطر للطاقة وعضوية مجلس إدارة جامعة قطر.
ومن شخصيات آل الجيدة ذات القرابة بالمترجم لها أيضاً، الأستاذ علي محمد الجيدة الذي تولى منصب الأمين العام لمنظمة الأقطار المصدرة للبترول (الأوبك) في الفترة من 1977 إلى 1978، ثم أصبح خامس سفير لبلاده لدى بلاط السانت جيمس من 1993 إلى عام 2000. وهناك يوسف محمد الجيدة الذي يشغل حالياً منصب الرئيس التنفيذي لمركز قطر للمال.
وبالعودة إلى سيرة المرحومة آمنة محمود الجيدة، نجد أن بلادها كرمتها في عام 2004 بإصدار كتاب عنها تحت عنوان «آمنة محمود الجيدة» من تأليف الدكتورة بدرية مبارك العماري، ومن إصدار وزارة الثقافة.
وقد تضمن الكتاب ثلاثة أقسام: نبذة تاريخية مختصرة عن تطور التعليم، وسيرة الجيدة الذاتية، وإسهاماتها في إرساء التعليم النظامي لبنات جنسها، ثم تم تكريم الجيدة مجدداً في عام 2009، بإطلاق اسمها على مدرسة ابتدائية حديثة للبنات بمنطقة الدفنة من الدوحة. والجدير بالذكر أن هذين التكريمين كانا بعد انتقالها إلى جوار ربها في عام 2000 عن عمر ناهز السابعة والثمانين.
رحلت آمنة الجيدة، لكن ذكرها يتجدد في كل ساعة ويوم، فلولا شجاعتها وصبرها وإيمانها بالعلم وضرورته للبنات كما للبنين، وتحملها لإساءات بعض من بني قومها الذين لم يتفقوا مع فكرها التنويري وتوجهاتها في تثقيف وتحرير المرأة، لربما تأخر تعليم الإناث في بلادها لسنوات أخرى.
ويمكن القول إن الجيدة كانت محظوظة، عندما بدأت نضالها في سبيل تعليم الإناث في الخمسينيات، لوجود شخصية تربوية رائدة مثل الشيخ الفقيه عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله الأنصاري (1914 ــ 1989) الملقب بخادم العلم ومؤسس ومدير أول معهد ديني نظامي في قطر.
فهذا الأخير وقف آنذاك إلى جانبها فيما يتعلق بتعليم البنات وشجعها وسعى إلى تذليل العقبات من طريقها، على العكس من زميله الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود (1909 ــ 1997) الذي كان من أنصار التضييق والتشديد في تعليم المرأة.
وفي هذا السياق سجل عن الجيدة قولها (بتصرف): «طلب مني الشيخان عبدالله الأنصاري وعبدالله بن تركي أن أعرض فكرة التعليم على بعض نسوة قطر، فلم نجد القبول. وبعد ذلك ذهبنا إلى مدينة الوكرة حيث قمنا بتشجيع بعض الأهالي على تعليم نسائهم وبناتهم القرآن الكريم داخل مدرسة صغيرة، فكان ذلك بمثابة حجر الأساس في تعليم البنات في الوكرة الذي انتشر سريعاً إلى بقية المناطق».