ليس صحيحاً أن ثورة الشعب التونسي الأخيرة التي أطاحت بزين العابدين بن علي، جاءت في وقت قصير لم يتجاوز الأسابيع. تلك كانت نتيجة أقرب بالحتمية، لسنين طويلة من المشاعر المكبوتة ضد الظلم والإهانة والاستبداد.

إنها حصيلة سنوات طويلة من القمع وبث الرعب وهيمنة الفساد، وهي ذاتها النتيجة التي حذر ويحذر من الوصول إليها أصحاب الرأي الناقد، ودعاة الإصلاح والتغيير الإيجابي في منطقتنا العربية.

ومهما بلغ ذكاء الإدارة السياسية في امتصاص غضب الجماهير وشراء الذمم والولاءات، فلا بد أن يأتي اليوم الذي يطغى فيه غضب الناس على خوفها، فيحدث مثل الذي حدث في الشوارع التونسية. تلك عبرة من عبر التاريخ، وتلك نتيجة ستعجل من تكرارها تقنية العصر التي أسهمت في فضح أشكال الاستبداد، وإخراج الناس من عزلتهم وكسب التأييد من كل أرجاء الكون.

إذن، ليس لنا ـ في العالم العربي ـ بد من التأمل في التجربة التونسية، من أجل قراءة عملية وواقعية للمستقبل المليء بالمفاجآت، وهو على الأبواب!

ثمة فرق بين نظام يعمل على إسعاد واحترام مواطنيه، ونظام يمارس كل الدسائس والوسائل لظلم شعبه وقمعه. والنظام القوي ـ القوة الحقيقية وليست ذات الصبغة الأمنية التي تتهاوى أمام أي هزة ـ هو النظام المدعوم برضى الناس وقناعتها. ثمة قائد يحب شعبه فيحبه شعبه، وهذا النوع من القيادة ستجده محمياً بشعبه، فتجده أكثر قرباً للناس وهمومها وشؤونها. القائد الذي يأمنه شعبه يأمَن مِن شعبه، والقائد الذي لا يأمنه شعبه تجده دوماً محصناً بسياج من الدبابات والطائرات وجيوش الحراسة. والنظام الذي لا يتعلم من دروس التاريخ، سيبقى مخدوعاً بمقالات وخطابات التبجيل والخداع، التي تمتلئ بها وسائل إعلامه ومساجده ومناسباته الكبرى. وهؤلاء الذين يمدحون اليوم كل صغيرة وكبيرة، ويبررون الظلم والكذب والفساد، هم أنفسهم أسرع من ينقلب على نفسه كي يبدأ في شتيمة من كان يمدحه بالأمس، مع نقد قاس للماضي القريب وفضح أسراره.

الحقيقة أننا في العالم العربي اليوم، نخبا فكرية وسياسية، منظمات أهلية ورسمية، مطالبون بوقفة صادقة مع النفس، ومراجعة التجربة التونسية بكل شجاعة وصدق. وحينما نفعل سندرك أن أحد أبرز الدروس يكمن في إدراك حقيقة أساس: لا مفر من الإصلاح الحقيقي على كل الصعد. اليوم غير الأمس، ومجتمعات اليوم، مهما كانت شديدة الفقر أو محدودة الاطلاع، باتت أكثر قرباً من التحولات الكبرى التي يشهدها العالم اليوم.

ومن أجل مصلحة الجميع، مجتمعات وقيادات سياسية، لا مفر من فسح مجال حقيقي للنقد البناء الذي تتبناه وتضحي من أجله أصوات وطنية تسعى لخير أوطانها وتحترق من أجل بلدانها. لا أسهل من صناعة الأعداء في عالمنا العربي، ولا أسرع من إنتاج «الأبطال» في بلداننا، من أولئك الذين تحولهم الرقابة الرسمية والضيق من الرأي الناقد، إلى رموز وطنية وهم آخر من يعلم.

المؤسسة التي تضيق من نقد أبنائها تصنع منهم ـ بجهل وحماقة ـ أعداء أو أبطالا. والظرف اليوم يستدعي فعلاً نظرة عقلانية لظروف الناس ومعاناتهم، طموحاتهم وآمالهم، إحباطاتهم وإخفاقاتهم. ويستدعي أيضاً نظرة شاملة في أساليب الإدارة وآلية التعاطي مع مطالب الناس، وحقهم في المشاركة والتعبير والتفاؤل بمستقبل بلدانهم وأجيالهم القادمة.

الدرس التونسي، بكل تعقيداته وخفاياه، ما ظهر منها وما بطن، يحتاج منا جميعاً وقفة تأمل صادقة. لكنه ـ وهنا الأهم ـ ينتظر منا رؤية واضحة للتعاطي مع تعقيدات الراهن وتحديات المستقبل، وتقليل الفجوة المخيفة بين من يقرر ويملك تقريباً كل شيء، وبين من لا حول له ولا قوة، ولا يملك سوى الفتات، ما يعد «مشروع بقاء» لكثير من الأنظمة العربية، إن فهمت جيداً الدرس التونسي الأخير.

وفي منطقتنا العربية توجد عشرات الأمثلة للقيادات التي تجر شعوبها وأوطانها للحروب الأهلية والتصفيات الدموية والخراب العام. وفي المقابل، لدينا أمثلة حية للقيادات التي تبني بلدانها وتحمي شعوبها، وتحقق آمال وطموحات أبنائها.

لدينا ـ عربياً ـ أمثلة حية للأنظمة التي تتمنى شعوبها أن تطردها «في ليلة ظلماء»، وقيادات ستكون شعوبها سياجها المنيع من أي تهديد وحزام أمانها القوي المتين.

حقاً؛ القائد الذي يأمنه شعبه يأمَن مِن شعبه، والقائد الذي يحب شعبه يحبه شعبه!

ولكن يبقى السؤال: متى نتعلم؟!