تشهد مصر الآن تحوّلاً سياسياً تاريخياً، لم تشهده منذ حدوث ثورة «23 يوليو» في العام 1952. ولعلّ من المهمّ جداً لشباب مصر اليوم الاستفادة من الخلاصات الفكرية والسياسية التي وصلت إليها «ثورة يوليو»، قبل انحراف مسار هذه الثورة بعد وفاة قائدها جمال عبد الناصر.
فالقيادة الناصرية لثورة 23 يوليو طرحت مجموعة أهدافٍ فكرية عامّة، وعدداً من الغايات الاستراتيجية المحدّدة، إضافةً إلى جملة مبادئ حول أساليب العمل الممكنة لخدمة هذه الغايات الاستراتيجية والأهداف الفكرية العامّة. وقد ظهر ذلك في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر الثورة، لكن نضوجها وتكاملها ظهرا بشكل أوضح في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عامي 1967 و1970.
فاستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص «الميثاق الوطني» و«تقرير الميثاق» اللذين صدرا العام 1962، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية لثورة «23 يوليو» الناصرية بما يلي:
* رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو للعمل الوحدوي العربي.
* الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل، للوطن وللمواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين: سياسي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وحرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء. أمّا الوجه الاجتماعي فيتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني، ودور القطاع العام وتوفير فرص العمل، وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة.
* المساواة بين جميع المواطنين، بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي بغيابها ينهار المجتمع ولا تتحقّق الحرية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.
* اعتماد سياسة عدم الانحياز لأي من القوى الكبرى، ورفض الارتباط بأحلافٍ عسكرية أو سياسية تقيّد الوطن ولا تحميه.
* مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ إفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكنَّ مصر ـ مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر ـ ذات هويّة عربية واحدة، وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى، إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ مشترك.
* الاستناد إلى العمق الحضاري الديني لمصر وللأمّة العربية، انطلاقاً من الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية، والتركيز على أهمّية دور الدين في بناء مجتمعٍ قائم على القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية، لكن مع عدم زجّ المسألة الدينية في اختيار الحكومات والحاكمين ومهام الدولة وسلطاتها.
* انّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتحاد بين البلدان العربية، لا يتحــــــــقّق من خلال الفرض أو القـــــوّة بل (كما قال ناصر) «إنّ الإجماع العربي في كلّ بلدٍ عربي على الوحدة، هو الطريق إلى الوحدة».. وقال ناصر في «الميثاق الوطني» أيضاً: «طريق الوحدة هو الدعوة الجماهيرية.. ثمّ العمل السياسي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثمّ الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة وللعمل معاً». وقـــــــال أيضاً في الميثاق: «إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعـــــــبي ليس مجرّد تمــــــسّك بأسلوبٍ مــــــثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشـــعوب العربية».
أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الإسرائيلي، فقد وضعت قيادة «ثورة يوليو» منهاجاً عربياً ومصرياً واضحاً لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب 67، يقوم على:
* بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة، لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية، ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضدّ العدوّ الصهيوني.
* وضع أهدافٍ سياسيةٍ مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمَّة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكلّ الجبهات العربية مع إسرائيل.
* العمل وفْقَ مقولة «ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترّدّ بغير القوّة»، وانّ العمل في الساحات الدبلوماسية الدولية، لا يجب أن يعيق الاستعدادات الكاملة لحربٍ عسكريةٍ تحرّر الأرض وتعيد الحقَّ المغتصَب.
* وقف الصراعات العربية ـ العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصةٍ ومنفردة، ويؤمّن الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
هذه مجموعة خلاصات فكرية وسياسية لتجربة ثورة 23 يوليو، خاصّة في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967. ومصر الآن، والمنطقة العربية كلّها، بحاجة ماسّة إلى هذه الخلاصات الفكرية والمواقف الاستراتيجية، لتشكّل بالنسبة لها دليلاً مهماً لحركتها الممتلئة الآن بنبض الشارع وروح الشباب وعنفوانه.
جمال عبد الناصر قال في الباب الأوّل من «الميثاق الوطني»، الذي قدّمه في مايو 1962 للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية: «إنّ قوّة الإرادة الثورية لدى الشعب المصري تظهر في أبعادها الحقيقية الهائلة، إذا ما تذكرنا أنّ هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم ثوري سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فإنّ هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظريةٍ كاملة للتغيير الثوري. إنّ إرادة الثورة في تلك الظروف الحافلة، لم تكن تملك من دليلٍ للعمل غير المبادئ الستّة المشهورة».
وما قاله جمال عبد الناصر عن كيف أنّ الثورة بدأت دون «تنظيم سياسي ثوري» ودون «نظرية سياسية ثورية»، يوجِد تفسيراً لما وصلت إليه مصر والأمَّة العربية بعد وفاة جمال عبد الناصر، حيث فقدت الجماهير العربية اتصالها مع القائد بوفاته، ولم تكن هناك بعده أداة سياسية سليمة تحفظ للجماهير دورها السليم في العمل والرقابة والتغيير.
اليوم، ونحن في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فإنّ مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد في عموم المجالات متغيّراتٍ جذرية.. لكن تبقى مصر والأمَّة العربية بحاجةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى مشروع فكري نهضوي إصلاحي، لا تقلّل من شأنه سلامة أسلوب التحرّك الراهن للشباب العربي المنتفض الآن.
ففي كل عمليّة تغيير هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهم تحديدها أولاً: القيادة، الأهداف، والأسلوب. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث.
هي فرصةٌ هامّة، بل هي مسؤوليّةٌ واجبة، للجيل العربي الجديد المعاصر الآن، أن يدرس ماضي أوطانه وأمّته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبل جديد أفضل له وللأجيال القادمة.
مدير «مركز الحوار العربي»