الشرارة كانت في تونس، لكن شعلة النور الوهّاج حملها عالياً شباب مصر. هذه المرّة، ستعمّ من القاهرة أشعّة النور أرجاء المنطقة العربية، لا ألسنة اللهب الحارقة، كما حدث يوم دخل أنور السادات القدس المحتلة، فأخرج مصر من أمِّتها العربية، وبدأ عندها عصرٌ من الانحطاط والتبعية والفساد والحروب الأهلية والاستباحة الأجنبية للأرض العربية.
اليوم، عادت القاهرة لشعبها، بعد أن استولى عليها حفنةٌ من الفاسدين لأكثر من ثلاثين عاماً. وشعب مصر لا يمكن أن يقبل بتقزيم دور وطنه الرائد والطليعي عبر تاريخ المنطقة كلّه. فتصحيح مسار الحياة السياسية الداخلية، سينعكس حتماً على كلّ المسارات الأخرى لمصر ولدوائر الانتماء المتعدّد لها.
هي مرحلةٌ انتقالية الآن في مصر. فتغيير «الأشخاص» في الحكم احتاج لأسابيع، وتغيير النظام سيحتاج إلى أشهر، لكن تغيير السياسات عموماً قد يحتاج بضع سنين، فلا نستعجل هذا التغيير ولا نيأس من عدم حصوله.
ثورة «25 يناير» حقّقت حتّى الآن، وبغضّ النظر عن مراحل المستقبل، إنجازاتٍ عظيمة لمصر وللأمَّة العربية. فهي مع «توأمها» التونسي، كسرا حاجز الخوف الذي ساد لعقود لدى شعوب المنطقة (باستثناء ظواهر المقاومة ضدَّ الاحتلال)، نتيجة ممارسات الاستبداد الداخلي. والثورتان التونسية والمصرية أكّدتا حيويّة الشارع العربي، وأنَّ الشعوب العربية ليست جثثاً هامدة كما كان يزعم البعض، وأعادت هاتان الثورتان الأمل بإمكانية بناء مستقبل عربي أفضل، فأوقفتا بالتالي حالة السلبية واليأس والإحباط التي عششت في خلايا التفكير العربي.
العرب الآن في نظر الشعوب الأخرى، هم قوّة تغيير ديمقراطي سلمي وليسوا «جماعات إرهاب وعنف»، بينما تدافع إسرائيل، التي كانت تدّعي أنّها «الحالة الديمقراطية» الوحيدة في المنطقة، عن حكم الفساد والاستبداد.
يكفي فخراً لثورة مصر أنّها أوقفت حالة الانحدار الانقسامي الشعبي الذي ساد في الفترة الأخيرة، والذي برزت في ظلامه الدامس خفافيش الصراعات الطائفية بين الشعب الواحد، فإذا بهذه الثورة تُصحّح هذا الصراع المصطَنع لتعيده إلى طبيعته بأنه صراع سياسي واجتماعي، بين ظالمٍ حاكم ومحكومٍ مظلوم.
الطلائع الشبابية الثورية في مصر، أحدثت تغييراً هاماً يتّجه نحو بناء مجتمع ديمقراطي حر، تتنافس فيه كل الاتجاهات الفكرية والسياسية، في ظلّ ضماناتٍ بفصل السلطات وتوفير كل الحريات العامة، وتأكيد المرجعية الشعبية للحكومات والسلطات والبناء الدستوري. وستحاول قوى كثيرة داخل مصر وخارجها أن «تستوعب» هذه الثورة وإنجازاتها، أو أن تجعلها كزهرة جميلة مصطنعة لكن لا جذور وطنية مصرية وعربية لها. ستحاول هذه القوى توصيف هذه الثورة وكأنّها ثورةٌ على ماضي مصر الوطني والعربي، حتى تبقى السياسة الخارجية لمصر كما كانت في العهد السابق، وتنحصر إنجازات الثورة في بعض الإصلاحات الدستورية والاقتصادية فقط. هذا هو مثلاً طموح حكومات دول الغرب، وفي مقدّمتها الإدارة الأميركية، من التغيير الذي حدث في مصر وقبلها في تونس. فهذه الحكومات لا يهمّها طبعاً من هو الشخص الحاكم في أي بلد، أو مدى استبداده وظلمه لشعبه، فالمهمّ عندها هو معيار مصالحها واستمرار نفوذها وهيمنتها على هذه البلدان. والحرص على المصالح الأميركية في مصر وفي المنطقة، هو الذي تطلّب إنقاذ النظام المصري من نفسه من خلال إنقاذه بتغيير رأسه.
هي الآن لحظةٌ زمنية شبيهة بما حدث في العام 1956، حينما اشتركت المصلحة الأميركية في وراثة النفوذ البريطاني والفرنسي في المنطقة، مع هدف التحرّر الوطني المصري الذي كان يقوده جمال عبد الناصر، فقد وقف آنذاك الرئيس الأميركي الجنرال أيزنهاور ضدّ العدوان الثلاثي البريطاني ــ الفرنسي ــ الإسرائيلي على مصر، بعد تأميم قناة السويس.
كانت واشنطن تراهن آنذاك على «استيعاب» الثورة المصرية التي قامت في العام 1952، وتأمل أن يكون موقفها المساند للقاهرة عام 1956 مدخلاً لتبعيّة مصرية لها في حقبة الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتي، لكن اتجاهات الريح سارت بغير ما اشتهت واشنطن.
حتماً، ستأخذ القضايا الداخلية المصرية الآن حيّزاً كبيراً من الاهتمام والوقت، لكن بمقدار ما ستحقّقه مصر من بناء ديمقراطية سليمة، بقدر ما ستتحرّر من أي قيد أو تدخّل خارجي وأجنبي. فالديمقراطية السليمة ستفرز حتماً سياسةً خارجية سليمة، تماماً كما يحدث الآن مع التجربة الديمقراطية في تركيا، والتي رغم عضويتها في حلف الناتو ورغم علاقاتها الأمنية والسياسية الخاصة مع واشنطن وتل أبيب، تُمارس سياسةً خارجية مستقلة تعتمد المصلحة التركية كمعيار لموقفها، وهذا ما ظهر في فترة التحضير للحرب على العراق، ثمّ في الموقف من حصار غزة والحرب عليها، وكما هو أيضاً الموقف التركي من إيران وسوريا.
لكن أخطر ما تشهده الساحة السياسية المصرية الآن من طروحات، هو التوصيف الذي يعطيه البعض للثورة الحالية بأنها «ثورة على الاستبداد الذي بدأ في العام 1952». فهذا التوصيف يستهدف قلع زهرة «ثورة يناير» من ترابها الوطني، ووضعها في «إناء أميركي» جميل يرويها لبعض الوقت، لتوظيفها في «الزينة السياسية»، ولإظهار مشاعر الودّ والحب، ثم ليرميها بعد أن تذبل وتموت. فما الذي يريده أصحاب هذا الوصف؟ هل هم يرغبون في عودة حكم «النصف في المئة» والاحتكار والإقطاع والفساد في الحياة السياسية الذي كان قائماً قبل «ثورة 23 يوليو 1952»؟!
ألا يعلم هؤلاء أن ما كان لشباب مصر أن يحصلوا على التعليم العالي والشهادات الجامعية، لولا «ثورة يوليو» التي كسرت احتكار التعليم العالي، بعد أن كان خاصّاً بطبقة الأغنياء، فجعلت التعليم بمختلف مراحله مجّانياً، وفتحت أبواب العلم والمستقبل أمام الجميع، بمن فيهم ربّما أولئك الذين ينقضّون الآن على «ثورة يوليو» تحت شعارات «الديمقراطية»، تماماً كما فعلوا هم وغيرهم من قبلهم!
مصر الآن أمام مرحلة انتقالية، نأمل فعلاً أن تصل إلى بناء ديمقراطي سليم، لا تقتصر فيه الديمقراطية على حق «تعبير الشعب عن نفسه بالشكوى فقط، بل ترقى لإزالة الأسباب التي جعلته أساساً يشكو». وحينما تصبح مصر محكومةً من نفسها بنفسها، فلا خوف عندئذٍ على سياستها الخارجية. فالشعب المصري رفض كل حالات التطبيع مع إسرائيل، رغم التشجيع الرسمي له. وحينما يحكم هذا الشعب العظيم نفسه، فإنّه يعرف شقيقه وصديقه ومن هو خصمه أو عدوه. وسيصادق من يصادقه ويعادي من يعاديه، وسيحرص على دور القاهرة وفق انتماء مصر لدوائرها المتعددة ولهويّتها العربية الواحدة.