تساؤلات عدة ترافق الآن حركات التغيير والثورات الحاصلة في المنطقة العربية. صحيح أنّ هذه الحركات الشعبية الساعية للتغيير، كلّها نابعةٌ من إرادات وطنية محلية، وهادفةٌ إلى تحقيق إصلاحات دستورية واقتصادية واجتماعية، تحتاجها فعلاً بلدان هذه الثورات، لكنّ غير الواضح حتّى الآن، هو مدى التغييرات التي ستحدث في هذه المجتمعات، وهل ستقتصر على تغيير في الأشخاص وصيغ الحكم، أم ستشمل التحالفات والسياسات الخارجية؟ ثمّ ما صورة البديل المنشود عن الحكم المرفوض؟!
أيضاً، من القضايا المثيرة للانتباه الآن، عدم وجود وضوح في هويّة القوى التي تقوم بعمليات التغيير وقيادة الثورات الشعبية. فالثورات هي جسر وممر، وليست مستقرّاً للشعوب. هي وسيلة انتقال من ضفّة لأخرى، والناس جميعاً يعرفون الضفّة السائدة أو التي يُثار عليها، لكن ما زالت ملامح الضفة الأخرى غامضة، رغم الحديث عن لونها الديمقراطي المنشود.
فمن المسائل التي ترتبط بمرحلة ما بعد الثورات، تبرز قضية السياسة الخارجية كمحور مهم لأيِّ بلدٍ عربي، إذ يتوجّب على المتغيرات الجارية في المنطقة العربية أن تتعامل مع الصراع العربي/الصهيوني، وتفرّعاته التي فرضت ـ مثلاً ـ التطبيع مع إسرائيل على دول بعيدة عن أرض الصراع، كموريتانيا وبعض دول الخليج العربي. وفي هذا الصراع أيضاً جوانب ثقافية واقتصادية، إضافة إلى وجود محاور إقليمية تفرض نفسها حتماً على أي بلد عربي يعيش الآن حالة ثورة وتغيير داخلي.
المسألة الديمقراطية على أهمّيتها، غير منعزلة أيضاً عن الموقف من محاولات الهيمنة الأجنبية على بلدان المنطقة وثرواتها، وعمَّا هو موجود من قواعد عسكرية أجنبية، ومن صراعات دولية وإقليمية على أرض العرب. كذلك، نجد من المسائل الغامضة الآن، بعد التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، قضية العلاقات العربية ـ العربية، وما يرتبط بصيغ التعاون العربي المنشود، والذي به تصون الأوطان العربية نفسها من التدخّلات الخارجية. فالتأكيد على الهويّة العربية لأوطان المنطقة وشعوبها، هو سياج أمنٍ خارجي كما هو أيضاً حاجةٌ داخلية ترتبط بوحدة المصالح وبأهمية التكامل بين بلدان المنطقة. وستطمئنّ الأمَّة العربية لكلِّ تغيير يحدث الآن فيها، إذا كانت سماته المشتركة هي الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية. فلا ينفصل نجاح واحدة من هذه السمات عن الحاجة للنجاح أيضاً في السمات الأخرى. التغيير الشامل والكامل لن يكون سهلاً في أيِّ بلدٍ عربي، لكن من المهمّ أن يكون شاملاً للأشخاص وصيغ الحكم والسياسات، وأن يكون كاملاً في كلِّ مجال، فلا يكتفي بشكل التغيير، بل يكون محقّقاً فعلاً لما تطمح إليه الشعوب من عدل سياسي واجتماعي، ومن ضمانات لحرّية الوطن والمواطن معاً، ومن بناء دستوري يحقّق المشاركة الشعبية في الحكم، ويساوي بين جميع المواطنين، ويصون وحدة الأرض والشعب.
إنّ المنطقة العربية تشهد الآن ظاهرة «الثورات الديمقراطية»، بمعزل عن أي قضية أخرى، حتّى بمعزل عن حرّية بعض الأوطان من الهيمنة الأجنبية.
ومن الطبيعي أن يتحرّك الشارع العربي للمطالبة بأوضاع أفضل، ومن أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ بعض الحركات السياسية المشاركة في الثورات الشعبية، تحتاج هي نفسها إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف..
أيضاً، الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة، لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها داخل المجتمع؟ وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض؟ وما العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ عبر تجزئة الكيانات؟ ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل؟ وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً، أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟
طبعاً، هو إنجاز كبير حدث ويحدث حتّى الآن في أكثر من بلد عربي. فإيقاف حال الانهيار والانحطاط والفساد السياسي والتحكّم في أرزاق الناس ورقابها.. كلّها مكاسب كبيرة لأي شعب خضع لحكم ظالمٍ ومستبدٍّ وفاسد، لكن سؤال «ماذا بعد» هو أيضاً مسألة مهمة تستوجب عدم الركون لحدوث التغيير فقط. حتماً هناك مسافة زمنية مطلوبة لتحقيق البناء، فهدم الموجود دائماً أسهل بكثير من بناء المرغوب، فلا ينتظرنَّ أحد نتائج سريعة من أي تغيير حدث، لكنْ أيضاً يجب إلا يُكتَفى حصراً بما حدث. هي ثوراتٌ وحركات تغيير حديثة الولادة ولم تنضج بعد، لكنّها بحاجة لرعاية من أهلها حتى تبلغ رشدها.
لقد توفّرت في هذه الثورات لغاية الآن، عوامل إيجابية كثيرة؛ الإرادة والعزم على إحداث التغيير مهما كانت التضحيات، الشجاعة في الصمود والمواجهة مع حالات العنف السلطوي، الحرص على سلمية التحرك، عدم الشعارات الفئوية التي تُنفر الآخرين من قطاعات الشعب المتعدّدة، والدور الفاعل للجيل الجديد في عمليات التواصل التقني من أجل التعبئة الشعبية للتحرّك. لكن هذه الإيجابيات لا تمنع وجودَ مخاوف من سلبيات قائمة أصلاً في بعض المجتمعات العربية التي فيها انقسامات طائفية ومذهبية، أو نوازع انفصالية كما هو الحال في جنوب اليمن. فالمطلوب دستورياً هو ديمقراطية تحقّق فصل السلطات، وليس فصل الكيانات.
إنّ الحرّية، بمعناها الشامل، كانت وستبقى، ركناً مهمّاً في كلّ الرسالات السماوية، والقيم الإنسانية العامة. والحرّية تبقى عاجزةً وناقصة إذا لم تترابط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج، مع مسألة التحرّر من الاستبداد الداخلي.. الحرّية، التي هي كالطير، بحاجة إلى تكامل جناحي الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، كي تستطيع التحليق عالياً.. هي القضية الملازمة لوجود الإنسان أينما وُجد، ومنذ بدء الحياة الإنسانية على الأرض.. وهي التي ترتبط بحقّ الاختيار، وبالتالي الارتباط مع ميزة الإنسان بأنّه صاحب إرادة ومشيئة لعمل شيء ما أو عكسه.
كذلك، فالتعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية، لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي وأطماعه السياسية والاقتصادية، وتحدّيات الإرادة الأجنبية في فرض التجزئة والتخلّف منذ عشرات السنين على الأمّة العربية.
إنّ الديمقراطية السياسية والتكامل الاتحادي، وجهان لمشروع عربيّ واحد لمستقبل أفضل، وعماد هذا المشروع هو مفهوم الحرّية الشامل للمواطن العربي وللأوطان العربية.. للإنسان وللأرض معاً.