في ظل ما يشهده العالم العربي اليوم من «حراك» ضخم، لا مفر أمامنا في منطقة الخليج من السؤال: أين بلدان الخليج مما يحدث على الأرض في الشارع العربي اليوم؟ وهل ما يحدث في بعض المدن العمانية وفي البحرين مؤشرات يمكن من خلالها قراءة المستقبل؟ وهل ما زال بيننا من يصر على أن «الخليج ليس مصر ولا تونس ولا ليبيا»؟

الصحيح أن تجربة التنمية في بلدان الخليج كانت مختلفة، وأكثر وضوحاً من بلدان عربية نفطية أخرى. والصحيح أيضاً أن الاستقرار السياسي الذي عاشته بلدان الخليج في الخمسين سنة الماضية، منحها فرصة أكبر وأفضل لتحقيق مستويات جيدة في البنى التحتية والتعليم والصحة والاقتصاد.

لكن هذا لم يكن كافياً لضمان استقرار سياسي دائم، لمجموعة من الأسباب. فوجود نسبة من أبناء الخليج تحت خط الفقر، وهم يعيشون في بلدان شديدة الغنى، أقل ما يقال عنه إنه قصور تنموي وسياسي. وتراجع الطبقة المتوسطة في بعض البلدان الخليجية، شكل معضلة اقتصادية واجتماعية، ستؤثر عاجلاً أم آجلا على الاستقرار السياسي الذي تنشده مؤسسات الحكم في الخليج. والارتهان لفكرة أن كل من ينشد الإصلاح ليس سوى طالب سلطة أو مال، أخرت كثيرا من الخطوات التي كان يمكن لها أن تسهم في بناء سياسي واقتصادي واجتماعي أكثر تناغماً مع آلية الحكم العائلي في منطقتنا.

إنها فكرة خادعة، أن نعتقد أن بلدان الخليج كلها في منأى عما يحدث في الشارع العربي اليوم. فلقد أثبتت الأحداث الراهنة في مصر وتونس وليبيا، أن الفقر أو البطالة لم يكونا الحافز الأكبر للتظاهر وحمل لافتة «الشعب يريد إسقاط النظام». إنها منظومة من الأسباب، يكمل بعضها بعضا، تلك التي تقود إلى الانفجار والثورة على كل شيء. هذه المنظومة يمكن أن تحمل عنواناً واحداً هو الكرامة! وهذه «الكرامة» يجرحها العوز والفقر والتهميش والإقصاء، والإحساس بأن الإنسان يعيش في موطن أجداده كما لو كان ضيفاً ثقيلاً على أهل الدار! بل إن البعض في محيطنا نسف كفاح الأجداد من كل شبر من أرض بلاده من أجل وحدة تلم الشمل، فظن أن البلاد ومن عليها «غنيمة حرب»!

إذن، المسألة أكثر تعقيداً من الفقر والبطالة وكثرة الديون. إنها ـ شئنا أم أبينا ـ توق الإنسان للشعور بالانتماء الحقيقي لوطنه. هذا الانتماء أبعد من تأمين الوظيفة والمسكن والعلاج، فالإنسان في وطنه ليس مجرد موظف في شركة أجنبية!

الحقيقة الأخرى أن أجدادنا، أيام حكم القبيلة، كانوا مشاركين بفاعلية في حراك القبيلة وقضاياها وهمومها وتركيبة «القيادة» فيها. بل كانت القبيلة هي نفسها عينا تراقب أداء شيخها وسلوكه. وكان شيخ القبيلة قدوتها ورمزها، يستقي قوته من قوة أبناء قبيلته، ولا يشذ عن رأي جماعته، خاصة في تعاملاته مع القبائل الأخرى. إذن المشاركة العملية والحقيقية في صناعة القرار، ليست مطلباً غريباً أو خارجاً عن تقاليد مجتمعاتنا. لكن هذا المطلب بات اليوم أكثر ضرورة لاستقرار منطقتنا سياسياً، في ظل المتغيرات المهولة التي أنجبت لنا أجيالاً جديدة، ولدت وهي داخل التاريخ الإنساني المعاصر لا خارجه.

فمن غير المعقول أن نتوقع من جيل الشباب اليوم، الذي يشكل ‬65٪ من سكان بلداننا، أن يتقبل ما تقبله الجيل الذي قبله، سياسياً وثقافياً. ومن غير المنطق أن نعامل هذا الجيل، في نظرته لذاته ولمحيطه، بنفس الطريقة التي عومل بها جيل الآباء والأجداد. ومن الخطأ الفادح أن نظن أن جيل الشباب في الخليج، معزول عن أحداث الشارع العربي «الثائر» الآن في ميادين التحرير العربية، من شمال إفريقيا إلى جنوب الجزيرة العربية.

الخلاصة أن القيادات في منطقتنا بحاجة عاجلة جداً لاستيعاب ما يحدث في بلدانها وفي محيطها. ومن أجل الحفاظ على المكتسبات التنموية وتحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي المأمول، لا بد من البدء ـ اليوم وليس غداً ـ في مشاريع إصلاحية جادة. وهذه المشاريع لا بد لها أن تأخذ جدياً حق الإنسان في المشاركة، بالقول والفعل، وتفسح مجالاً أوسع للحركة والتعبير، وتبدأ عملياً في تفعيل أفكار المفكرين المخلصين من أبناء منطقتنا، لتأسيس مؤسسات رقابية صارمة، تراقب الفساد وتحاسب المفسدين من دون أن تستثني أحداً.

بقي التذكير بالحذر من تلك المقولات (أو الأحلام) الخادعة، تلك التي تقول «إن الشارع الخليجي غير».. لأن الشارع الخليجي فعلاً ليس «غير»، بل جزء أصيل من حراك الشارع العربي الكبير. ولهذا فليس من المفيد تجاهل آمال وطموحات وإحباطات الشارع الخليجي، بل المطلوب الآن إقناع الشارع الخليجي بأن مشاريع الإصلاح الجادة قد بدأت فعلاً على الأرض، وهي حق وطني لا «مكرمة» أو «منحة».

كاتب ومستشار إعلامي