يمكن وضع القرار الأخير الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي بشأن ليبيا، وكل ما سبقه وما لحقه من تصريحات أميركية وأوروبية حول الممكن اتّخاذه كإجراءات ضدّ نظام القذافي، في سياق أحد ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول؛ أن يكون القرار والتصريحات مجرّد تسجيل موقف و«رفع عتب»، وضغط معنوي دولي على نظام العقيد القذافي، فيكون ذلك مفهوماً ومقبولاً عربياً وليبياً.
الاحتمال الثاني؛ هو أن تكون تلك الإجراءات والعقوبات جدّية فعلاً، لكنّها هنا ستعني أنّ «المسألة الليبية» أصبحت في نظر هذه الدول مفتوحةً زمنياً، وأنّه يجب تكريس واقع الحال القائم الآن من حيث وجود «ليبيا الشرقية» و«ليبيا الغربية»، ووجود «حكومتين» على الأراضي الليبية، إضافة لدواعٍ «دولية إنسانية» تحتّم إقامة «مناطق حظر جوي» وقوات دولية في شرق ليبيا لحماية المواطنين وتقديم المساعدات الضرورية لهم. أي بشكل مشابه لما حصل بعد حرب العام 1991 في العراق، حيث استمر النظام العراقي في بغداد لسنوات، بينما نما واقعٌ تقسيميٌّ في مناطق أخرى وبحماية أجنبية، وفي ظلّ ضمانات استمرار تدفّق النفط العراقي وهيمنة العقوبات الدولية. وهذا الاحتمال خطيرٌ جداً في أبعاده ونتائجه، على الصعيدين الليبي والعربي.
الاحتمال الثالث؛ وهو الأخطر طبعاً، أن يتكرّر في ليبيا ما حدث في العراق في العام 2003، من غزو عسكري أميركي ـ أوروبي لمنطقة طرابلس، وبدعمٍ من بعض أطراف المعارضة الليبية، بحيث يكون الهدف منه إسقاط النظام بالقوة العسكرية الأجنبية، وإقامة واقع سياسي جديد في ليبيا مبني على نظام فيدرالي متعاون مع الناتو عسكرياً، وضامن للمصالح النفطية الغربية.
في الاحتمالين الثاني (وهو المرجح الآن) والثالث، مؤشّرات خطيرة مبنيّة على أهمية ليبيا بالنسبة لدول حلف الناتو، نفطياً وعسكرياً، كما هو الآن مهمٌّ أيضاً بالنسبة لإسرائيل أن تتمّ محاصرة مصر «الجديدة» بدولتين عربيتين تتنازعهما انقسامات داخلية، وعليهما بؤر عسكرية أجنبية طامحة للهيمنة على ما فيهما من ثروات نفطية. وهاتان الدولتان هما السودان وليبيا، بغضّ النظر عن مصير معمر القذافي نفسه، حيث المراهنة هي على صراعات البدائل الممكنة في ليبيا والسودان معاً، وعلى انقساماتٍ قبلية وإثنية. طبعاً، العقيد القذافي يتحمّل المسؤولية الأولى والأخيرة في كلّ ما حدث وما يمكن أن يحدث لليبيا وشعبها وسيادتها ووحدة أراضيها، لكنْ أيعقل أن يجتمع مجلس الأمن وحلف الناتو لاتخاذ إجراءات تتعلّق ببلد عربي، ولا تكون هناك مواقف عربية حاسمة في المسألة الليبية؟!
صحيح أنّ ما يحدث في ليبيا معنيٌّ بتقريره الشعب الليبي وحده، لكن في ظل احتمالات التدخّل الأجنبي المباشر، أين هي المصلحة العربية عموماً، والمصالح المصرية خصوصاً، في عدم التحرّك الجاد والفعّال للمساهمة في دعم الشعب الليبي وثورته، ممّا يضمن أيضاً وحدة ليبيا أرضاً وشعباً ويساعد على إقامة نظام سياسي ديمقراطي جديد واضح في هويّته العربية دوراً والتزاماً!
إنّ المسألة الليبية هي ليبية أولاً، وهي مصرية ثانياً وعربية ثالثاً، ولا مكان فيها للتدخّل العسكري الأجنبي الذي سوف يخدم حصراً مصالح دوله، لا مصالح الشعب الليبي أو جواره العربي.
فلماذا لا تبادر جامعة الدول العربية، والعاصمة المصرية تحديداً، إلى عقد جلسة طارئة في القاهرة يحضرها وزراء الخارجية والدفاع العرب، وبحضور ممثلين عن الثورة الليبية، لإقرار خطة ليبية ـ عربية تضمن سيادة ليبيا ووحدتها وعروبتها، وتساهم في الحفاظ على أمن مناطقها وتقديم ما يلزم من مساعدات لشعبها، وللتهيئة لبناء نظام جديد فيها؟
هناك العديد من الضباط والعسكريين الليبيين المنضمّين الآن للثورة، والقادرين على تشكيل نواة أمنية وعسكرية ليبية، تكون مهمّتها التعاون مع قوات مصرية وتونسية من أجل ضبط الأوضاع الأمنية على الحدود مع البلدين وفي عموم الأراضي الليبية.
كذلك، من المهمّ سياسياً خروج موقف عربي مشترك، يرفض التدخّل العسكري الأجنبي في أيِّ بلدٍ عربي يشهد الآن أو قد يشهد لاحقاً ثورات داخلية.
هي الآن في ليبيا معركة حياة أو موت بالنسبة لفوضى «نظام» القذافي، وهو لن يسأل عن حجم الضحايا من شعبه أو عن مصير وطنه، كما لن يهتمّ كثيراً بالنداءات الدولية، فالذي لا يسمع ولا يفهم صوت شعبه، لا يمكن له أن يسمع أصواتاً أخرى.
يبدو أن إدارة واشنطن والحلفاء الأوروبيين لها، لم يضمنوا بعد البديل الممكن لحكم القذافي، خاصّةً بعد أن منح القذافي إدارة بوش السابقة والدول الأوروبية كلَّ ما طُلِب منه أمنياً ومالياً ونفطياً وشروطاً سياسية، كان منها نزع الهوية العربية عن ليبيا ودفعها لهوية إفريقية مائعة، جعلت من القذافي «ملك ملوك إفريقيا». وفي ظلّ عدم «ضمان البديل»، تصبح المصالح الغربية في خطر يستوجب في رأي أصحابها التدخّل المباشر، ولو بأشكال مختلفة وعلى مراحل. فمن غير المعروف بعدُ لدول الغرب كيف سيكون النظام الليبي الجديد، وماهيّة برنامجه السياسي، وكيف سيتعامل مع ثروته النفطية ومع جواره العربي والإفريقي، وهل ستكون هناك صراعات أو تفاهمات بين قوى المعارضة الليبية حين تصل هذه القوى للحكم!
هي كلّها حتّى الآن احتمالاتٌ، ولا يستطيع أحد الجزم بحدوث أيٍّ منها. فالأوضاع الليبية على الأرض هي التي ستقرّر مصير الخطط والمشاريع الدولية التي يتمّ حالياً إعدادها. فالكلمة الأولى والأخيرة هي للشعب العربي الليبي، الذي سينجح في مواجهة الاستبداد الداخلي كما نجح سابقاً في مواجهة الاحتلال الخارجي. ولا يخطئنَّ أحد بأن الشعوب العربية توّاقة الآن للديمقراطية فحسب، وأنّها ستتساهل مع الهيمنة الأجنبية على أوطانها من جديد. فهذه الشعوب أدركت بوعيها الفطري الصادق، أن لا فصل ولا انفصال بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وأنّ الاستبداد الداخلي يخدم الهيمنة الخارجية، والعكس صحيح.
إنّ شعوب البلاد العربية تفتح عيناً الآن على حكومات الفساد والاستبداد، لكنّها لن تُغمض الأخرى عن محاولات السيطرة الأجنبية على الثروات الوطنية العربية. وهذه الشعوب، التي تشغلها حالياً قضاياها الداخلية الوطنية، لن تسمح أيضاً باستباحة أراضٍ عربية أخرى، ولن تتهاون في مواجهة مستعمرٍ جديد أياً كان.
يبقى القلق فقط على مقدار التنّبه لمحاولات الفتن الداخلية، والتنبّه أيضاً ممّن يريدون أولوية الحصص الفئوية. فهناك في الحالتين أشخاصٌ جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث عن عملاء.