على خلاف ما توقع صديقنا المنافح عن اللغة العربية الأستاذ أبو صالح أنيس لقمان الندوي، لم أشعر بأي انزعاج عندما كاتبني قائلاً إنه، من دون علمي ولا إذني ولا استشارتي، أعطى صديقه الباحث الألماني «دانيال فالك» عنوان بريدي الالكتروني كي يتواصل معي بشأن إعداد بحث عن سياسات «حماية اللغة العربية» في الإمارات، معتقداً، وهو يحسن الظن بي، أنني سأكون خير معوان له، ثم احتاط لنفسه قائلاً: وإذا كنت ترى أنني بالغت في حسن الظن، وتجاوزت الحد، وأزعجتك بالفعل، فيحق لك أن تنتقم مني بكتابة مقال يفضح بلادة إحساسي بمشاعر الناس في سبيل تحسيسهم بمشاعر اللغة، أو بأي أسلوب آخر تراه أنسب وأشد مفعولاً لشفاء غليلك، بيد أنني واثق ومتفائل جداً بأن تصرفي هذا، وإن بدا في ظاهره تجاوزاً، سيحظى بحسن التجاوز وحسن القبول عندك، وبالتالي ينال صديقي الألماني هذا من وقتك وأريحيتك ما ييسر عليه تحقيق هدفه من زيارة الإمارات، لأجل خدمة اللغة العربية وثقافتها التي طالما أرى مقالاتك تبوح، بل تصرخ بما يتأجج بين جوانحك من جذوة الغيرة عليها.
لصديقي العزيز الأستاذ «أبو صالح» أقول، إن ألف مقال لن تشفي غليلي، ليس منه، وإنما مما تعانيه اللغة العربية على يد أبنائها، كما أن اهتمام «دانيال فالك» بهذه اللغة التي تلقى الجحود والنكران منا، يخفف قليلاً من الأسى الذي نشعر به نحن العرب، ويشعر به الناطقون بها من غير العرب، أمثال الأستاذ «أبو صالح» الذي يقول إنه منذ أن وطئت قدماه ثرى الإمارات الغالية، ليس له ديدن سوى طرق مسامع الناس واستنطاق ألسنتهم، أحبوا أم كرهوا، بالفصيح والصحيح من كلام العرب، لأنه يفضل أن يُشتَم بالعربية على أن يُمدَح بغيرها، ولأنه يرى أن العرب لن يحتلوا بين الشعوب المكانة اللائقة بهم، ما لم تحتل العربية أولاً من قلوبهم وألسنتهم، وبين لغات العالم، المكانة اللائقة بها.
حين هاتفني السيد «دانيال فالك» للاتفاق على موعد للقاء، فاجأتني لغته العربية الفصيحة ومخارج ألفاظه السليمة، وعندما حاولت رسم صورة له في مخيلتي، قبل أن ألتقيه، لم أذهب إلى أبعد من صور المستشرقين الألمان الأوائل أمثال «هاينريش فلايشر» الذي يعتبَر المؤسس الحقيقي للدراسات العربية في ألمانيا، والذي تتلمذ على يديه الجيل المعروف من المستشرقين الكبار، أمثال «نولدكه» و«غولدتسهير» و«يعقوب بارت» و«أوغست مولر» وغيرهم، لكنني عندما التقيته وجدته شاباً في العشرينات من العمر، مرشح للحصول على شهادة الماجستير في معهد الدراسات الشرقية في جامعة «لايبزك»، وقد اختار لأطروحته موضوع السياسة اللغوية في دول الخليج العربي، والتحديات التي تواجهها اللغة العربية المعاصرة فيها (الإمارات العربية المتحدة نموذجاً).
أصدقكم القول إنني قد أشفقت على صديقنا الألماني «دانيال» من اختياره هذا، ليس لصعوبة موضوع الرسالة، وإنما لمأساوية وضع اللغة العربية في المكان الذي اختاره نموذجاً لأطروحته، وهو ما شاهدته على وجهه دون أن يصرح به لفرط أدبه، عندما سألته عن المواقع التي زارها لدراسة واقع اللغة العربية على أرضها، فأخبرني أنه زار بعض المدارس الخاصة، ورأى على أرض الواقع ما تعانيه اللغة العربية فيها من إهمال وتهميش وسوء حال.
يطرح صديقنا «دانيال» في أطروحته مجموعة من الأسئلة يحاول من خلالها أن يحلل حالة اللغة العربية: من يتكلم بها؟ ومن يدرسها؟ ومن يدرّسها؟ وهل لها دور في الحياة العامة أم أنها أصبحت لغة ميتة رمزية لا تستخدم إلا في المجال الرسمي؟ ثم يسأل عن السياسات اللغوية: ما هي القوانين واللوائح التنفيذية التي تنظم استخدام اللغات في نظامي التعليم الخاص والعام، وفي الإعلانات والإعلام؟ وما هي الإجراءات التي تقوم بها الدولة من أجل إحياء اللغة العربية، أو على الأقل للحفاظ عليها؟ وهل هناك رغبة في الحفاظ عليها أم أن المصالح الاقتصادية تطغى على هذه الرغبة؟ وما هي الخطوات الملموسة التي تم اتخاذها بهذا الصدد؟ وكيف يتم تطبيق حماية اللغة؟ وهل الإعلانات الرسمية مقتصرة على الكلام ولا علاقة لها بالواقع؟
حزمة من الأسئلة وجدت نفسي حائراً أمامها، ليس لأن إجاباتها صعبة أو غير معروفة، وإنما لأنها مخجلة ومحزنة، لذلك أحلت ضيفنا الألماني القادم من مدينة المستشرق «هاينريش فلايشر» إلى صديقنا الأستاذ بلال البدور رئيس جمعية حماية اللغة العربية، عله يجد إجابات أكثر تفاؤلاً عنده، أما أنا فعدت إلى مكتبي وانصرفت إلى تصفح بريد العمل الالكتروني الذي يتم التخاطب عبره باللغة الإنجليزية إلا فيما ندر، وما ندر هذا لا يقاس إطلاقاً بكمِّ البريد الصادر والوارد بلغة غير لغة هذا البلد الذي صدرت قرارات كثيرة من أعلى المستويات، بضرورة أن تكون لغة المعاملات الرسمية فيه هي اللغة العربية، لكنها ظلت قرارات على الورق، ربما يستفيد منها صديقنا «دانيال» كمراجع في أطروحة رسالة درجة الماجستير المرشح لنيلها.
وكانت صدمتي الثانية عندما حضرت في اليوم نفسه الأمسية الثانية لــ«مهرجان طيران الإمارات للآداب» التي أقيمت على مسرح ندوة الثقافة والعلوم في دبي، وضمت خمسة من شعراء الشرق والغرب، كان بينهم الصديق الشاعر ظاعن شاهين الذي ألقى قصيدتين باللغة العربية تمت ترجمتهما إلى اللغة الإنجليزية، كما تُرجمت قصائد الشاعر الصيني «يانغ ليان» إلى الإنجليزية أيضاً، أما الشعراء الثلاثة الآخرون فقد ألقوا قصائدهم باللغة الإنجليزية، ولم تترجم هذه القصائد إلى أي لغة، باعتبار أن اللغة الإنجليزية هي أم اللغات، كأننا لسنا في بلد عربي من المفروض أن تُحترَم لغة أبنائه، حتى لو أراد منظمو المهرجان أن يعطوه صبغة دولية لا نعتقد أن الترجمة إلى اللغة العربية سوف تنتقص منها شيئاً، كما تفعل كل الشعوب التي تحترم لغاتها.
وقتها تمنيت لو أن صديقنا «دانيال فالك» كان معنا، ليرى كيف يتم تجاهل اللغة التي جاء يبحث عن الجهود التي تُبذَل لحمايتها في عقر دارها، وخرجت من تلك الأمسية وأنا أردد: كان الله في عونك يا «دانيال»، فقد اخترت لأطروحتك العنوان الأصعب في الزمن الأصعب والمكان الأصعب، يا صديقي العزيز.