فجأة، انتقلت المنطقة العربية من حال السبات والجمود إلى شعلة من الثورات، من مراهنة على الخارج لإحداث تغيير ما هنا أو هناك، إلى انتفاضات شعبية نابعة من صميم هموم الناس ومن معاناتهم الطويلة، انتفاضاتٌ فرضت نفسها على أرضها ومع شعبها، وعلى حكوماتها وعلى العالم كلّه.

هذا التحوّل الهام الذي تعيشه بلاد العرب منذ مطلع العام الجاري، غيّر بلا شك أجندات وأولويات دولية وإقليمية كانت تتحكّم في أوضاع المنطقة ومصائرها، لكن في الوقت نفسه همّش هذا التحوّل الثوري الجاري قضايا هامة أخرى، ما زالت فاعلةً ومؤثرة في مستقبل الشرق الأوسط ككل. فالانتفاضات العربية الجارية الآن طغت مثلاً على أمر خطير حدث مطلع هذا العام في أمَّة العرب، وهو الاستفتاء على مصير جنوب السودان، والذي أدّى عملياً إلى فصل الجنوب عن وطنه الأم. كذلك حصل التهميش إلى حدٍّ ما في موضوع الملف الفلسطيني، وما كان عليه الأمر من تأزّم في «عملية السلام» بسبب المستوطنات الإسرائيلية.

أيضاً، قبل هذه الثورات والانتفاضات، كان «الملف الإيراني» أولوية أميركية وغربية في الشرق الأوسط، حيث ارتبطت تباعاً مع هذا الملف قضايا عديدة أخرى، منها المستقبل السياسي للعراق، والموقف الغربي والأميركي من حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، ومن التنسيق السوري معها ومع إيران.

طبعاً، الجميع الآن ينتظر ما ستسفر عنه هذه المرحلة من متغيرات سياسية، ليس في الحكومات والأشخاص فقط، لكن حتماً القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفية بحال الانتظار. هي تعمل بدون شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيرات، بل وتحاول استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لها.. وهي كلّها احتمالات قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيرات وظروفها. من الطبيعي، مثلاً، أن تنشغل الآن مصر في أوضاعها الداخلية، لكن من المهمّ أيضاً أن يكون هناك تنبّه مصري عام لما يتمّ في الخفاء والعلن، من سعي لإجهاض ثورة يناير داخلياً، ولمحاصرة مصر خارجياً بأزماتٍ تعصف بأمنها الوطني، وتُشكّل خطراً في المستقبل على الاستقرار والوحدة الوطنية داخل الأراضي المصرية. فما حدث ويحدث في السودان وليبيا، لا يمكن أن يبقى بعيداً في تأثيراته عن مصر وثورتها. كذلك هي محاولات تحريك الفتن الطائفية التي لا تنفصل عمّا قامت به إسرائيل ودول أخرى في جنوب السودان لعقود من الزمن، وعمّا يسود في المنطقة عموماً من مناخ طائفي ومذهبي، تراهن عليه إسرائيل تحديداً لتفتيت دول المنطقة وإضعافها، ولإنهاء ظواهر المقاومة فيها من خلال إثارة الغرائز الطائفية والمذهبية، كما يحدث الآن في لبنان.

فإذا كانت الثورات والانتفاضات العربية هي الآن ظواهر مشرقة واعدة بغدٍ أفضل يضع حدّاً لأنظمة الفساد والاستبداد، فإنّ تلك «المتغيرات» الحاصلة لا يجب أن تحجب ما يستمرّ «ثابتاً» في المنطقة، من خطر الاحتلال الإسرائيلي ومحاولات الهيمنة الأجنبية، في ظلّ أجواء طائفية ومذهبية تنخر الجسم العربي وتهدّد وحدة أوطانه، وتُسهّل السيطرة الخارجية عليه.

إنّ المطلوب عربياً في هذه المرحلة هو عدم الفصل بين الحاجة لتغييرات داخلية في بعض الأوطان، وبين مسؤوليات ما تفرضه التحدّيات الخارجية على هذه البلدان، ثم ما تحتّمه أيضاً دواعي الأمن الوطني، كما هو الحال الآن بالنسبة للثورة المصرية التي هي منشغلة في ترتيب البيت الداخلي المصري، بينما تشتعل نيرانٌ في البيوت العربية المجاورة لها. فمصر معنيّة الآن بدور أكثر فعالية في مواجهة حالة الإبادة التي يمارسها حكم القذافي ضدّ شعبه، هذه الحالة الجنونية التي تعطي المسوّغات والمبرّرات لدعوات التدخّل العسكري الأجنبي ولتهديد وحدة ليبيا وسيادتها الوطنية.

مصر ثورة يوليو ‬1952 كانت الرائدة في قيادة حركات التحرّر الوطني العربية ضدّ الاستعمار الأوروبي في المنطقة، والقاهرة ساهمت خلال حقبة الخمسينات والسيتينات في تحرّر الجزائر وعدن والسودان وغيرها من هيمنة المحتل الأجنبي، كما كان تأميم قناة السويس نموذجاً مهماً لدول المنطقة لاستعادة ملكيتها لثرواتها الوطنية من استغلال الشركات الأجنبية.

هكذا يأمل العرب اليوم أن يكون دور مصر أيضاً رائداً، ومساهماً في تحقيق الوجه الآخر من مفهوم الحرّية، بأن تكون القاهرة نموذجاً وقوة إسناد للديمقراطية ولمجتمعات متحرّرة من الاستبداد والفساد والتبعية للخارج. العرب يأملون من ثورة يناير ‬2011 أن تقوم بما فيه مصلحة وطنية مصرية، وبما يحقّق أيضاً مصلحة عربية مشتركة في تلبية نداءات الشعب الليبي بالوقوف إلى جانبه في كل المجالات، وأوّلها الحفاظ على أرواح المواطنين الليبيين الذين يواجهون أبشع ما يمكن أن يقوم به حاكم ضدّ شعبه. فمصر قادرة على أن تكون طليعة قوّة أمنية عربية، تقرّها الجامعة العربية ويطلبها المجلس الانتقالي الليبي، لإنهاء محنة الشعب العربي الليبي دون الحاجة لدور عسكري أجنبي في شأن ليبي ـ عربي مشترك.

صحيح أنّه من المهم جداً أن تخرج استنكارات دولية لجرائم «النظام» الفوضوي الليبي ضدّ شعبه، وأن يتمّ عزله ومحاصرته دولياً، لكن هذا شيء والمراهنة على تدويل المسألة الليبية شيء آخر.

هناك أنظمة قمعية تمارس قمع الناس حين ينتفضون عليها لكنّها تقف عند حدٍّ معيّن، وهناك أنظمة إبادية لا تمانع في إبادة شعبها إذا مسّها خطر الثورة عليها، ولم يبقَ من فصيلة الأنظمة الإبادية حالياً غير نظام العقيد القذافي، والذي في استمراره، أو في نجاحه في إخماد الثورة، سيكون نموذجاً تتبعه حكومات أخرى تواجه انتفاضات شعبية الآن، بدلاً من السير على النموذجين التونسي والمصري.

إنّ مصر معنيّةٌ بشكل كامل في كلّ ما حدث وما قد يحدث في ليبيا. والأمن القومي المصري والعربي، يتطلّب الآن تحرّكاً سريعاً وجادّاً من المجلس العسكري الذي يقود مصر حالياً، فمصر هي الآن بين بلدين عربيين يشهدان مخاطر التقسيم والتدويل (السودان وليبيا)، بعدما كان هذان البلدان مع مصر في «ميثاق طرابلس» أيام جمال عبد الناصر، وفي «اتحاد الجمهوريات العربية» أيام أنور السادات، وها هما الآن بعد معاهدات «كامب ديفيد»، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من عزل مصر عربياً ومن حكم الفساد السياسي والمالي، يتّجهان نحو هاوية التقسيم والتدويل، ممّا يشكّل بالتالي مخاطر كبيرة على الأمن الوطني المصري.