بدأت تتّضح، إلى حدٍّ ما، ضوابط الموقف الأميركي ممّا حدث ويحدث في المنطقة العربية من انتفاضاتٍ شعبية ومتغيّراتٍ سياسية. فبعد تأرجحٍ بين هبوطٍ وصعود في تأييد واشنطن لحركات التغيير والإصلاح العربية، رست سفن الموقف الأميركي على شواطئ عربية متعدّدة. فحجم المصالح الأميركية الكبيرة في المنطقة واختلاف ظروف بلدانها، يجعل أي إدارة أميركية تتعامل مع هذه المنطقة بمفهوم «الأسطول»، وليس «السفينة الواحدة»، أي وحدة القائد والهدف لهذا «الأسطول»، لكن مع تعدّدية «السفن» وجهات الاستخدام، تبعاً لظروف الشواطئ التي سترسو فيها. فالموقف الأميركي من ثورة تونس أولاً، اختلف عنه آخراً بعد نجاح الثورة، فتحوَّل الصمت الأميركي الذي ساد في الأسابيع الأولى من ثورة تونس، إلى تقديمها نموذجاً للثورات العربية الأخرى الممكنة في المنطقة، بحسب رأي مساعد وزيرة الخارجية الأميركية السفير فيلتمان، خلال زيارته لتونس بعد سقوط نظام بن علي.

ثم حدثت ثورة مصر، فوجدنا حماساً أميركياً لها ولهدفها الآني بإسقاط شخص الحاكم، وبضرورة إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، لكن كانت واضحة أيضاً رغبة واشنطن بأن يتوقّف التغيير المصري عند حدود أشخاص الحاكمين، لا بحدوث تغييرٍ شامل للنظام السياسي، وحتماً لا بالسياسة الخارجية للنظام السابق. ثم توالت الانتفاضات العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، فبدأت التباينات تظهر في المواقف الأميركية، وباختلاف سقف تصريحات «البيت الأبيض» عمّا كان عليه خلال ثورة مصر.

وربّما يمكن وضع الموقف الأميركي من حركات الشارع العربي الآن، في فئاتٍ عدة: الأولى؛ ونموذجها ما حدث في تونس ومصر، من حيث دعم واشنطن لتغيير حاكمين وإصلاحات داخلية، لكن بما لا يؤثّر على السياسات الخارجية السابقة. ويدخل اليمن، رغم اختلاف ظروفه عن تونس ومصر، في هذه الفئة الأولى، لكنّ واشنطن لا تمانع في المساهمة في إنضاج ظروف التغيير هناك لتصل إلى مرحلةٍ تتأكّد فيها من ضمانات العلاقة مع بديل الحكم الحالي، ومن استمرار صيغ التعاون السياسي والأمني القائمة حالياً بين واشنطن وصنعاء. ويبقى طبعاً مصير الكيان السياسي لليمن غامضاً، في ظلّ دعوات انفصال الجنوب اليمني واللامركزية السياسية والأمنية السائدة في مناطق الحوثيين في الشمال، حيث قد ترحّب واشنطن بقيام نظام سياسي فيدرالي جديد في اليمن يحكم أجزاءه الثلاثة، اعتماداً على الصيغة الفيدرالية التي دعمتها في النظام العراقي الجديد. الفئة الثانية، وهي التي تشهدها بلدان ذات أنظمة ملكية، كحال ما يحدث في المغرب والأردن والبحرين، حيث كان الموقف الأميركي واضحاً في عدم تأييد أي مطلب بتغيير أنظمة الحكم (ولا طبعاً في السياسات الخارجية)، لكن مع الدعوة المتكرّرة لإجراء إصلاحات في هذه الأنظمة ولضمان الحريات السياسية العامّة، ومن ضمنها حقّ التظاهر السلمي. أمَّا الفئة الثالثة في المواقف الأميركية، فنراها تحدث الآن مع ليبيا، حيث جرى تدويل الثورة الليبية بعدما استخدم حكم العقيد القذافي كلّ ما لديه من أنواع الأسلحة لقمع الثورة وقتل الثوار. فانتقلت القضية الليبية من قضيةٍ وطنية وعربية، إلى أزمةٍ دولية يتمّ التعامل الآن معها بمرجعية «مجلس الأمن» وباستخدام القوة العسكرية متعدّدة الجنسيات. وهنا يقع وجه الملامة كلّه على حكم القذافي، الذي هدّد شعبه بالإبادة وبملاحقة الثوار وقتلهم «بيت بيت ودار دار». لكن جامعة الدول العربية أيضاً تتحمّل مسؤولية عدم التحرّك سريعاً لإنقاذ ليبيا وشعبها، قبل حصول التدويل. وها هي ليبيا الآن تدخل في خانة «المستقبل المجهول»، بعد عنف إجرامي من حكم القذافي ضدّ المواطنين المدنيين، جرى الردّ عليه من قبل الانتفاضة الشعبية الليبية السلمية بالتحوّل إلى ثورة مسلحة، ثمّ الآن بضربات جوية وبحرية متعدّدة الجنسيات!

لقد كان قرار مجلس الأمن قوّة دعمٍ للثوار الليبيين، ولكن ليس لأهداف الثورة الليبية، كان عسكرياً لصالحهم، لكن ليس سياسياً. فالعالم كله يثق في الثورة الليبية ويتعاطف مع حاجتها للدعم وللحماية من جبروت حكم القذافي وآلته العسكرية المدمّرة، ويتفهّم أيضاً تمييز قادة الثورة بين القبول بمنطقة الحظر الجوي وبين رفضهم لوجود قوات أجنبية على الأرض الليبية، لكن لن يضمن الآن ذلك كلّه مستقبل ليبيا ووحدتها وسيادتها، بعدما أصبحت مرجعيتها دولية ومرتبطة بمصالح الدول الكبرى وغاياتها الخاصة. حبّذا لو بادرت المعارضة الليبية إلى المطالبة العلنية والقوية بتدخّل عسكري عربي، أساسه القوات المصرية لحسم الأمور لصالح ليبيا الثورة والثوار معاً. وحدوث هذا الأمر ما زال ممكناً، باعتبار أنّ قرار مجلس الأمن لا يشير إلى تغيير النظام ولا إلى وجود قوات أجنبية على الأرض الليبية، إذ ما الذي سيحصل لو اكتفى القذافي بالحكم على جزءٍ من ليبيا وأوقف هجماته والتزم بقرار مجلس الأمن؟ فليس في القرار عقوبات عسكرية على حكم القذافي إن فعل ذلك، وسيكون بإمكانه تصدير النفط لبعض الدول، والتعايش مع العقوبات السياسية والاقتصادية كما فعل في حقبة ماضية! ثمّ لِمَ لم يعترف القرار الدولي أو الدول الموافقة عليه، بالمجلس الوطني الليبي المؤقت كممثل شرعي الآن للشعب الليبي؟ ولِمَ ترك بعض الأبواب والنوافذ مفتوحة أمام الاتصالات مع حكم القذافي؟! فنصوص قرار مجلس الأمن رقم ‬1973 تخدم من يريدون إسقاط حكم القذافي، كما تخدم من يريدون الحفاظ عليه.

وهناك ضوابط للموقف الأميركي، حتّى لو أرادت واشنطن إسقاط القذافي الآن وليس غداً. فإدارة أوباما تدرك الرفض الشعبي الأميركي لأي تورّط عسكري جديد في الشرق الأوسط، وتدرك أيضاً معنى ما قاله وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أمام الكونغرس، عن «ضرورة أن يفحص أي وزير دفاع أميركي عقله ورأسه قبل الموافقة على حرب جديدة في المنطقة»، كما تأخذ إدارة أوباما المواقف الروسية والصينية والهندية والبرازلية بعين الاعتبار، فهذه دول تحتاجها واشنطن سياسياً وأمنياً واقتصادياً، في قضايا وأزمات تفوق أهميتها القضية الليبية. إنّ الإدارة الأميركية لن تتجاوز الآن في تصعيدها العسكري ضدّ حكم القذافي، ما قامت به من ضرباتٍ بحرية وجوية، ولن تمارس ذلك أصلاً لفترة طويلة من الزمن كما فعلت في العراق وفي يوغسلافيا. فإدارة أوباما تراهن على تحقيق النتائج السياسية لهذا التصعيد خلال وقتٍ سريع، وعلى تجيير أمور الضربات العسكرية، في حال الاضطرار لاستمرارها، إلى الحلفاء الأوروبيين، مع استمرار الموقف السياسي الأميركي المطالب برحيل القذافي. فهذه الإدارة انتخبها الأميركيون لوقف حروب، لا لإضافة حربٍ جديدة، ولا توجد حالياً مصلحة لهذه الإدارة في إظهار الأزمة وكأنّها بين واشنطن وحكم القذافي أو بين أميركا وبلدٍ عربيٍّ آخر.. والله أعلم.