لفت انتباهي، من جملة ما يصلني من رسائل ومقالات توزَّع على شبكة الانترنت، ما كتبه بعض المفكرين والكتّاب العرب من ملاحظات على مسار الانتفاضات والثورات العربية الجارية حالياً. ومن هذه الملاحظات ما كتبه الدكتور خالد الناصر من تعليق على مقال للدكتور مخلص الصيادي، حول المظاهرات الشعبية التي حدثت في سوريا. قال الدكتور الناصر: «أنا أرى أن يتمَّ التمسّك بالخطوط التالية: 1- سلمية الحراك الشعبي مهما كانت ردود فعل النظام. 2- الوحدة الوطنية وعدم السماح بالانزلاق إلى أيِّ طرح طائفي مهما حدث. 3- عدم إعطاء أيَّة فرصة للتدخّل الخارجي، ناهيك عن موضوع استدعائه المرفوض كلياً. 4- عدم المساس بثوابت سوريا المعروفة تاريخياً عبر كلّ أنظمتها، وهي الانتماء العربي والتمسّك بالمقاومة لقوى الهيمنة. 5- عدم استعداء حلفاء النظام الخارجيين.
سواء قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، أو الدولية كإيران وتركيا، كما قد بدر من بعض القوى الحمقاء من المعارضة، وتحييدهم لأنّهم خارج موضوع هذا الصراع أصلاً. حينها يصبح تصعيد الحراك الشعبي هو الوسيلة التي لا مناص منها لحصول التغيير، وأي تفريط في الخطوط التي ذكرت سيكون نذير فشل ومثار خطر يجب أن نحذر منه وأن نتجنّبه، فنحن نريد سوريا المعافاة القوية الديمقراطية القادرة على أن تقوم بدورها القومي المهم في المنطقة، وليس مجرّد استبدال نظام مسدود الأفق بنظام لا نعرف أين سيصبّ».
أيضاً، كتب الدكتور علي فخرو مقالاً عن الأخطاء في مسيرة بعض الثورات، قال فيه: «الشعارات الناجحة تحتاج أن تركّز على الأولويات المفصلية الكبرى، وأن تكون وطنية جامعة تقبلها أغلبية كبيرة من مكوّنات المجتمع، وأن لا تغفل أهميّة التوازنات والثوابت الإقليمية أو القومية، وكذلك أهميّة تعاطف الخارج معها، وأن لا تصاحبها مظاهر رمزية فئوية تُشتَّم منها الطائفية أو العرقية أو القبلية، وعلى الأخصّ أن لا تصطدم بمرتكزات تاريخية ودستورية قامت عليها الدولة وتَوافَقَ عليها المجتمع عبر سنينٍ طوال».
كذلك، كتب الأستاذ كمال شاتيلا: «إنّ عوامل نجاح الثورة المصرية مهمّة جداً لتقاس على أساسها الانتفاضات والثورات والتحرّكات العربية، وأبرز هذه العوامل: أنّ الثورة كانت سلمية ولم تعتمد العنف المسلح، ونهضت على الوحدة الوطنية فلم تكن طائفية أو مذهبية أو فئوية، ومثّلت الأغلبية الشعبية ضدّ طبقة الأقلية. وبالتالي، حينما يكون هناك تحرّك فئوي انفصالي أو فئوي أو مسلّح في مكانٍ ما من العالم العربي، فلا يمكن أن نسمّيه انتفاضةً أو ثورة، لأنّ هناك فارقاً بين تغيير نظام وبين تقسيم وطن، وحين تبدأ القضية شعبية تحرّرية وتنتهي تقسيمية استعمارية، فهذه ليست ثورة».
هذه نماذج محدودة ممّا بدأ يظهر في الكتابات العربية من حديث عن ضوابط ومفاهيم للثورات العربية، بعد فترة سادها أسلوب المدح الخالي من أيِّ نقد لما هي عليه طبيعة هذه الثورات أو نواقصها.
فالمنطقة العربية تشهد الآن ظاهرة «الثورات الديمقراطية» بمعزل عن أيّة قضية أخرى، فالواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها الفكرية والسياسية والدينية والإثنية داخل المجتمع؟ وما هو مصير دعم المقاومة المشروعة في فلسطين ولبنان؟ وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات؟ ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل؟ وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً، أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟
تحدّثت في مقالة سابقة، تضمنها مع مقالات عديدة أُخرى كتابٌ لي صدر حديثاً تحت عنوان: «الفكر والأسلوب في مسألة العروبة»، عن قوى التغيير في المجتمعات العربية، قائلاً: من غير توفّر مقومات نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ ضغط عنفي لتغييرٍ ما في المجتمع، قد يتحوّل إلى أداة تفجير اجتماعي وأمني يصعب التحكّم في نتائجه.
وقد يساعد، في تعميق هذه الخلاصات، فرزٌ مهمٌّ حدوثه لدى المنشغلين في هموم تغيير المجتمعات. فبمقدور المجتمعات العربية أن تحقّق خطوات إيجابية أوسع، لو وضعت في اعتبارها لائحة «التمييز المطلوب» هذه:
ــــ التمييز المطلوب في العمل السياسي بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية. فالخلط بين النظام الحاكم والكيان الوطني الواحد، هو خطرٌ على الوطن كلّه. لذلك فالتمييز ضروري بين تغيير أشخاص وسلطات وقوانين، وبين تهديم أسس الكيان الوطني والمؤسسات العامة في الدولة.
ــــ التمييز ضروري بين حقّ المقاومة المشروعة من أجل التحرير حينما تكون هناك أجزاء من الوطن خاضعة للاحتلال، وبين رفض أسلوب العنف المسلّح كوسيلة لإحداث التغيير داخل المجتمعات.
ــــ التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع يقوم على التعدّدية. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه.
ــــ التمييز بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر العولمة. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له.
في مقابل هذه العناصر من «التمييز المطلوب»، فإنّ قوى التغيير في المجتمعات العربية معنيّة أيضاً بـ«عدم الفصل» بين جملة قضايا:
؟ عدم الفصل بين الحرّية السياسية والحرّية الاجتماعية، أي «بين تأمين لقمة العيش وبين نزاهة البطاقة الانتخابية».
؟ عدم الفصل بين حرّية الوطن وحرّية المواطن. فالاستبداد الداخلي هو المسؤول عن القابليّة للاستعمار الخارجي.
؟ عدم الفصل بين أهمّية الإصلاح الداخلي في كلّ بلدٍ عربي، وبين ضرورة إصلاح العلاقات العربية ـ العربية من أجل تكامل الأقطار العربية واتّحادها على أسس دستورية سليمة.
؟ عدم الفصل بين المنطلقات والغايات والأساليب، وعدم الفصل بين الأطروحات النظرية وبين أساليب العمل التطبيقية. فكثيرٌ من الحركات السياسية العربية تقول ما لا تفعل، وتفصل بين الفكر والممارسة.
؟ التمييز مطلوبٌ بين قدرتنا كعرب على تصحيح انقساماتنا الجغرافية من أجل حاضرنا ومستقبلنا، وبين انقساماتنا التاريخية في الماضي التي ما زلنا نحملها معنا جيلاً بعد جيل، ولا قدرة لنا أصلاً على تغييرها!
وستطمئنّ الأمَّة العربية لكلِّ تغيير يحدث الآن فيها، إذا كانت سماته المشتركة هي الديمقراطية والتحرّر الوطني، والحرص على الوحدة الوطنية والهويّة العربية. فلا ينفصل نجاح واحدة من هذه السمات، عن الحاجة للنجاح أيضاً في السمات الأخرى.