فرضت الظروف الإقليمية الراهنة على دول مجلس التعاون الخليجي، أن تُفعل سياستها الخارجية وتلعب أدواراً إقليمية ودولية مؤثرة. نستطيع اليوم أن نرى «سياسة خارجية» خليجية مشتركة على أكثر من صعيد: الموقف من أحداث البحرين، المشاركة عسكرياً وسياسياً مع دول الناتو إزاء ليبيا، الخطاب السياسي شبه الموحد تجاه الخطر الإيراني، وأخيراً الوساطة الخليجية في الحدث اليمني المتأزم. صحيح أن لكل دولة من دول المجلس ظروفاً خاصة تحتم أحياناً «سياسة خارجية» مستقلة عن البقية، لكن تبقى ضرورة تنسيق المواقف في القضايا الكبرى المشتركة قائمة.

والأهم، في المرحلة المقبلة، أن يكون لدول المجلس «مشروع سياسي» واضح الملامح. لا بأس أن تختلف دول المجلس في رؤاها السياسية أو في طريقة أدائها أحياناً، بل إن من الخطأ أن تكون السياسة الخارجية الخليجية في كل شأن واحدة، إذ إن ثمة قضايا ليست ذات علاقة بالأمن القومي الخليجي المشترك، من حق كل دولة أن تعالجها بطريقتها أو منهجها الخاص. غير أن الظرف الإقليمي الراهن، بتداعياته المتسارعة، يستدعي تنسيقاً أسرع بين دول المجلس، من أجل الخروج بموقف سياسي خليجي قوي ومنطقي. فبقدر حاجتنا في الخليج لتفاعل إيجابي وسريع مع اللاعبين الكبار في الساحة الدولية، نحتاج أيضاً سرعة في الحركة إزاء الحدث الإقليمي، فهناك أخطار مشتركة كبرى لا بد من موقف موحد إزاءها. فأحداث اليمن الراهنة شديدة التعقيد، لكن دول الجوار (في الجزيرة العربية) معنية جداً بآثارها.

وحتى من قبل الأزمة السياسية الراهنة في اليمن، كانت دول الخليج معنية بالحالة اليمنية البائسة؛ من فقر مدقع وغياب شامل لمشاريع التنمية وألاعيب سياسية وصلت نيرانها لدول الجوار. وهكذا تصبح دول المجلس معنية بما يمكن أن يحمله مستقبل اليمن لدول الخليج، من متاعب سياسية أو تحديات اقتصادية ومشكلات اجتماعية. وأشد تعقيداً من الحالة اليمنية تأتي المواقف الخليجية إزاء الخطر الإيراني؛ هل ثمة إجماع خليجي على وجود هذا الخطر؟ وما هي أفضل الطرق للتعامل معه؟ وهل من الضرورة وجود خطاب سياسي خليجي موحد إزاء إيران؟

أما على الصعيد الداخلي فأمام دول المجلس اليوم تحد كبير في ردم الهوة الطائفية المؤلمة، التي عمقتها الأزمة البحرينية الأخيرة. لا يمكن لدول المجلس أن توحد جهودها أمام الأخطار الخارجية إذا كانت أزماتها الداخلية تنهك قواها مثل «سرطان» خبيث ينخر في الجسد!

إن تحقق «السلم الاجتماعي» أولاً، مسألة أساسية للتعاطي مع مخاطر الخارج بثقة وقدرة عالية. ولهذا فليس لنا في دول مجلس التعاون بد من العمل السريع والجاد، لإصلاح البيت من داخله. ليس من العدل أن تشعر فئة في المجتمع، مهما كبر أو صغر حجمها، بالتهميش أو الغبن أو الظلم. ولكي نقطع الطريق أمام أي اختراق للداخل الخليجي، لابد من احتواء كل فئات الداخل وفق مشروع وطني شامل، يساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات. وحينما نضمن سلامة وقوة الصف الداخلي، يمكننا أن نواصل العمل المشترك في مسائل مشتركة تتعلق أولاً بالأمن القومي المشترك.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن القصد، ليس دمج كل سياسات دول المجلس الخارجية في موقف موحد على طول الطريق. أنا لست من المنادين بـ»وحدة خليجية» شاملة تشمل دمج السياسات، وربما وزارات الخارجية والدفاع. أنا مع توثيق التعاون في ما يخدم تعميق العلاقات بين الشعوب، عبر «المصالح» التي تمس حياة الناس في دول الخليج، ومع رسم سياسات مشتركة إزاء الأخطار المشتركة، كما شهدنا في الموقف من أحداث البحرين وتطورات اليمن.

لكن التنوع، في السياسات وآليات التعامل السياسي والعلاقات مع الخارج، يبقى غنيا سيفيد المنطقة كلها على المدى البعيد. ولولا هذا التنوع البناء في المنطقة، لما شهدنا نماذج تنموية ناجحة في أبوظبي ودبي والدوحة. وحتى على صعيد العلاقات الدولية، من المفيد تنويع وتوزيع الأدوار الخليجية كما هو الحال الآن. هذا لا يتناقض أبداً مع الدعوة لتوحيد المواقف والعمل المشترك في المسائل الكبرى المشتركة. فوجود الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، لم يعن إلغاء التنوع الأوروبي على أصعدة المنتج الاقتصادي والثقافي والفني، ولم يلغ وزارات الخارجية والداخلية والدفاع في بلدان الاتحاد. التعاون لا يعني الاندماج أو الانصهار المطلق، الذي للأسف بات عربياً يعني ـ من ضمن ما يعنيه ـ الهيمنة المطلقة.

المهم حالياً أن دول مجلس التعاون تبدو اليوم فاعلة ومؤثرة في سياساتها الخارجية، وفي تعاطيها مع الأزمات الإقليمية المحيطية. هل هذه واحدة من نتائج التغيير الكبير في مصر؟ هل شعرت دول مجلس التعاون الخليجي بأن الظرف اليوم يفرض عليها أن تقود بدلاً من أن تقاد في تعاطيها مع المخاطر المحيطة بها؟ والسؤال الأهم: هل نحن فعلاً نشهد اليوم بدايات «مشروع سياسي» خليجي مشترك لا يلغي مميزات التنوع السياسي، لكنه يقوي المواقف المشتركة إزاء الأخطار المشتركة؟