حينما ينتفض شعبٌ ما في أيِّ بلد من أجل المطالبة بالعدالة السياسية والاجتماعية، تصبح حركته قوة تغيير نحو مستقبل أفضل، بينما العكس يحدث إذا تحرّكت الجماعات البشرية على أساس منطلقات إثنية أو طائفية، حيث إنّ الحروب الأهلية ودمار الأوطان هي النتاج الطبيعي لمثل هذا الحراك.

إنّ التعدّدية بمختلف أشكالها، ومنها الاختلاف في الخلق والأجناس واللغات والطوائف، هي سنّة الخالق الحتمية على هذه الأرض، والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة في كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيارٌ بشري ومشيئةٌ إنسانية، هو كيفيّة التعامل مع هذه «التعدّدية»، ومن ثمّ اعتماد ضوابط لأساليب التغيير التي تحدث في المجتمعات القائمة على «التعدّدية».

فليس المطلوب عربياً، وهو غير ممكن أصلاً، أن تتوقّف كل مظاهر الصراعات في المجتمع. فهذه دعوة للجمود ولمناقضة طبيعة الحياة وسنّتها التي تقوم على التحوّل والتغيير باستمرار، وعلى التصارع بين ماضٍ وحاضر ومستقبل. لكن المؤمّل هو أن تأخذ الصراعات السياسية والاجتماعية أولويّة الاهتمام والتفكير والعمل، بدلاً من الصراعات الأخرى التي تجعل الناس مثلاً يحاربون بعضهم البعض، فقط لمجرّد توزّعهم على انتماءات إثنية أو طائفية أو قبلية مختلفة.

إنّ المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، قد توصّلت إلى خلاصات مهمّة يمكن الأخذ بها في أيّ مكان. وأبرز هذه الخلاصات هو التقنين الدستوري السليم لتركيبة المجتمع، ممّا يصون حقوق «الأكثرية» والأقلّيات معاً، رغم مبدأ خضوع الجميع لما تختاره أكثرية الناخبين حينما تكون هناك انتخابات عامَّة في البلاد. وأيضاً لا بدّ في هذه المجتمعات من توافر الحدّ الأدنى من ضمانات الأمن والغذاء، وبعض الضمانات الاجتماعية والصحية، ممّا يكفل التعامل مع مشكلتيْ «الخوف» و«الجوع»، فلا تكون «تذكرة الانتخاب» أسيرة لـ«لقمة العيش»، ولا يخشى المواطن من الإدلاء برأيه أو المشاركة بصوته الانتخابي كما يملي عليه ضميره، لا كما يرغب من يتحكّم في لقمة عيشه أو من يرهبه في أمنه وسلامته.

هذه أسس هامّة لبناء المجتمعات الحديثة، ولتوفير المناخ المناسب لوحدة الأوطان، ولتقدّمها السياسي والاجتماعي، ولمنع الاهتراء في أنظمتها وقوانينها، كما هي عاملٌ مهم أيضاً في منع تحوّل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلى براكين نار تحرق نفسها ومن حولها.

إذن، من غير توفّر مقومات لبناء نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ ضغطٍ عنفي لتغييرٍ ما في المجتمع، قد يتحوّل إلى أداة تفجير اجتماعي وأمني يصعب التحكّم في نتائجه. كما أنّ عدم الالتزام بأساليب التغيير الديمقراطية، يعني تحويراً للانقسامات السلمية نحو مسارات عنيفة. فالانقسامات السلمية الصحية في المجتمعات، تحتاج لضمانات التغيير الديمقراطي من قِبل الحاكمين والمعارضين معاً.

وتعيش الآن المنطقة العربية بمعظمها مخاطر التهديد للوحدة الوطنية، كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما زال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية، ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

وقد اعتقد بعض العرب، خاصّةً ممّن هم في مواقع الحكم، أنّ إضعاف الهوية الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، لكنّ ذلك كان أشبه بِمن أراد إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه، عوضاً عن الطرح السليم للعروبة والدين، وبإفساح المجال أيضاً لحرّية التعبير السياسي والفكري للتيّارات كلّها.

إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين، يتطلّب أصلاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد، مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي.

إنّ أساس الخلل الراهن في جسم الأمَّة العربية، هو في عقول العديد من المفكرين والسياسيين وعلماء الدين، الذين فشلوا عملياً في الحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ كلّها في أطر فئوية، موجّهة كالسّهام ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد. فالتعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال الخمسينات والستينات، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب ولا مانعاً دون خوضٍ مشترك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرة معارك التحرّر آنذاك، أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت فعلاً مجسّدةً لتسمية «حركة تحرّر وطني».

اليوم، نتعايش مع إعلام عربي وطروحات فكرية وسياسية، لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقليات، بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة، بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهوية العربية المشتركة. هو انحطاط، وهو انقسامٌ حاصلٌ الآن بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني، في حروبها وصراعاتها متعدّدة الأمكنة والأزمنة، خلال العقود الثلاثة الماضية. وها هي الأمَّة العربية الآن تعيش تحوّلاتٍ سياسية خطيرة، هي نتاج طبيعي لتراكم ما حدث من تفاعلات ومتغيّرات في الثلاثين سنة الماضية، كان «الخارج» وسالداخل» فيها مسؤوليْن عن عصارة السلبيات التي تنخر الآن في جسد الأمَّة.

إنّ الشّباب العربي المعاصر لم يعش حقباً زمنيّة عاشها من سبقه من أجيال أخرى معاصرة، كانت فيها الأمّة العربيّة موحّدةً في مشاعرها وأهدافها وحركتها، رغم انقسامها السياسي على مستوى الحكومات. مراحل زمنيّة كان فرز المجتمع فيها يقوم على اتجاهات فكريّة وسياسيّة، لا على أسس طائفيّة أو مذهبيّة أو حتّى إقليميّة. لكن سوء الممارسات في بعض التجارب الماضية، والعطب في البناء السياسي الداخلي، إضافة إلى التدخّل والتآمر الخارجي، أدّت كلّها للإساءة إلى المفاهيم نفسها، فاستُبدِل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، وأضحى العرب في كل وادٍ تقسيميٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون!

هي فرصةٌ هامّة، بل هي مسؤوليّةٌ واجبة، للجيل العربي الجديد الآن، أن يدرس ماضي أوطانه وأمَّته بموضوعيّة وتجرّد، وأن يستخلص الدروس والعبر لبناء مستقبلٍ جديد أفضل له وللجيل القادم.

إنّ رفض الواقع والعمل من أجل تغييره هو مدخل صحيح لبناء مستقبل أفضل، لكن حين لا تحضر في مخيّلة الإنسان العربي صورة أفضل بديلة لواقعه، فإنّ النتيجة الحتمية هي السير في طريق مجهول لا تُعرف عقباه. وكذلك هي مشكلة كبرى حين يوجد عمل، لكن في اتجاهٍ غير صحيح.