أدت معاهدة «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل في أواخر السبعينات، إلى اختلالٍ وتدهور في الوضع العربي عموماً.. كذلك دفع بالعراق في الثمانينات ومطلع التسعينات، إلى حروبٍ ما كان يجب أن تحصل وما كان ممكناً أن تقوم، لولا الاختلال الذي حصل في الجسم العربي نتيجة غياب دور مصر الفاعل.
ولولا هذه السياسات الخاطئة في «السلم» و«الحرب» من قبل قيادتيْ مصر والعراق آنذاك، لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير، وهدر وتدمير لإمكانات عربية كثيرة، وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخّل والوجود العسكري الأجنبي، خاصّةً بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. ممّا تسبب لاحقاً في تراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جلياً في اتفاق أوسلو، الذي نقل القضية من قضية عربية إلى شأن خاص بقيادة منظمة التحرير ـ وليس حتى بالشعب الفلسطيني كلّه ـ فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وضعف وضع المقاومة المسلّحة المشروعة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
فقد تساقطت جميع الأولويّات والاستراتيجية التي بناها جمال عبد الناصر ردّاً على هزيمة 1967، والتي أدّت إلى حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، فإذا بالأرض العربية بعد غياب دور مصر تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي، وكذلك الصراعات المحليّة المسلّحة بأسماء دينيّة أو طائفيّة أو إثنية، وتبدأ في حقبة منتصف السبعينات الماضية، ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لازمة لأهداف السيطرة الخارجية والصهيونية.
كان عبد الناصر يردّد بعد العام 1967، أنّ «مصر هي مع كل تغيير داخلي عربي يضيف للمعركة مع العدوّ الإسرائيلي، ولا يأخذ من هذه المعركة». وكان ذلك معياره في رفض أو قبول أي محاولة تغيير في الدول العربية، فإذا بالتغيير يحدث لاحقاً في مصر بعد وفاة عبد الناصر، ليأخذها كلياً من معركة الصراع مع إسرائيل!
وقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية، قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكل عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كلّ بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي، وفي مناخات تشجّع على العنف المسلّح للتغيير الداخلي، وعلى فرزٍ وانقسامات داخل المجتمع الواحد. وكذلك تراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترك، ووقعت الحكومات العربية كلّها في مأزق «عملية السلام» مع إسرائيل: عجزٌ عن الحرب معها.. وتعجيزٌ إسرائيلي في شروط السلام!
هكذا كان حال المنطقة العربية مع إسرائيل، قبل بداية هذا العام وما حصل ويحصل فيه من ثورات وانتفاضات شعبية عربية، أثمر بعضها تغييراً مهمّاً وإيجابياً في مصر وتونس. وقد اعتبرت إسرائيل أنّها خسرت «كنزاً استراتيجياً مهمّاً» بسقوط نظام حسني مبارك، بينما تحدّث نتانياهو لاحقاً بإيجابية عن متغيّرات أخرى متوقّعة في المنطقة العربية.
نعم، هناك ضرورة قصوى للإصلاح والتغيير في عموم المنطقة العربية، ولوقف حال الاستبداد والفساد السائد فيها، لكن السؤال هو: كيف؟ وما ضمانات البديل الأفضل؟ وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب أن نكسب الآليات الديمقراطية في الحكم، بينما نخسر وحدة الأوطان أو نخضعها من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل في المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.
فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش بعد غزوها للعراق، من ترويج لمقولةٍ ديمقراطية، تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهوية العربية وتوزيع الأوطان إلى كانتونات فيدرالية؟ ألم يكن ذلك واضحاً في نتائج حكم بول بريمر للعراق وما أفرزه الاحتلال الأميركي من واقع سياسي تسوده الانقسامات الطائفية والإثنية، بل والجغرافية، للوطن العراقي؟! ألم تكن هذه أيضا مراهنات إدارة بوش وإسرائيل من حربيهما على لبنان وغزّة، بعدما فشلت «الانتخابات الديمقراطية» فيهما بإيصال من راهنت عليهم واشنطن وتل أبيب؟
الآن هناك قوى لبنانية تدعو إلى ضمان الهدوء على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل وترفض أي توتّر هناك، بينما يعمل بعض هذه القوى على توتير الحدود الشمالية مع سوريا بحجّة مساندة الحراك الشعبي السوري!
وهناك قوى سياسية سورية تدين المقاومة اللبنانية وترفع شعارات ضدّها، بينما تحتفل هذه المقاومة بالذكرى 11 لتحريرها لبنان من الاحتلال الإسرائيلي.. وبينما يتحدّث نتانياهو في الكونغرس الأميركي عن أمله الكبير ببعض الثورات العربية «التي لم تعد تتظاهر ضدّ إسرائيل، بل ضدّ حكوماتها فقط».
الآن تعتزم الولايات المتحدة أن تطلب من الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفع مسألة نشاطات سوريا النووية المفترضة إلى مجلس الأمن الدولي، بعدما فشلت محاولات تدويل الوضع الداخلي في سوريا كما جرى في المسألة الليبية. وطبعاً، في ظلّ رفض إسرائيل والإدارة الأميركية للتصويت على إعلان الدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إنّ الخوف الإسرائيلي الآن هو من خروج مصر تدريجياً من التزامات المعاهدة المصرية/ الإسرائيلية، بعدما فشلت إسرائيل في كسر إرادة المقاومتين اللبنانية والفلسطينية المدعومتين من سوريا. وها هي مصر الثورة تنجح في تحقيق المصالحة الفلسطينية، وتعيد فتح معبر رفح مع غزّة. لكن المراهنة الإسرائيلية هي على تعويض خسارة نظام مبارك، من خلال محاصرة مصر بأزمات عربية تخضع الآن لحالٍ من التدويل والتقسيم، وبتحويل ما يحصل فيها من انتفاضات شعبية إلى حروب أهلية داخلية. فالسودان على جنوب مصر يشهد حال التقسيم والتدويل معاً، وكذلك هو الواقع الليبي الآن على غرب مصر، بينما اليمن باب البحر الأحمر مهدّد بحرب أهلية. أمّا «الجبهة الشرقية» لمصر فهي أرض وساحة التدخّل والحروب الإسرائيلية، طيلة العقود الماضية التي استتبعت المعاهدة المصرية مع إسرائيل. فمنذ اجتياح إسرائيل للبنان عام 1978 ثمّ احتلال عاصمته في العام 1982، وصولاً إلى الحرب على غزّة نهاية 2008، وإسرائيل تقود حروباً مدمّرة من أجل دفع سوريا ولبنان والمقاومة الفلسطينية، إلى ما توصلّت إليه من معاهدات مع مصر ومع الأردن. والغايات الإسرائيلية كانت، ولا تزال، تعتمد على إثارة حروب أهلية لدى (وبين) الأطراف الفلسطينية واللبنانية والسورية.
إنّ إسرائيل تراهن هذا العام (كما قال نتانياهو أمام الكونغرس الأميركي) على متغيّرات عربية لصالحها، تراهن على «دويلات» عربية جديدة من داخل «الأمَّة العربية» المنقسمة.. لا على إعلان دولة فلسطينية من على منبر «الأمم المتحدة».