قرأت قولاً منذ فترة للشاعر والأديب الإنجليزي توماس إليوت، يتحدّث فيه عن كيف طغت "المعرفة" أولاً على مسألة "الحكمة"، التي كانت سمة هامة تتّصف بها ندرة من الناس، قبل عصر انتشار المعرفة التي رافقت الثورة الصناعية في أوروبا، ثم طغيان "المعلومات" مؤخّراً على المعرفة ذاتها. وقد نبّهني هذا القول للشاعر إليوت، الذي توفّي في العام 1965، إلى ما عليه عالم اليوم من هيمنة كاملة للمصادر المعلوماتية على عقول الناس ومشاعرهم ومواقفهم. ولنتخيل ما كان يمكن أن يقوله إليوت لو أنّه عاصر الآن حقبة الإنترنت والفضائيات والرسائل الإخبارية الهاتفية! فالناس في زمننا الحالي نادراً ما يتعمّقون في معرفة الأمور ويكتفون بالمعلومات السريعة عنها، بل أصبحت عقول معظمهم تعتمد الآن على البرامج الإلكترونية، حتى في العمليات الحسابية البسيطة، وأصبحت آليات هذه البرامج هي صلات التواصل بين البشر بدلاً من التفاعل الشخصي المباشر، وكذلك ربّما في المنزل نفسه أو في مكان العمل المشترك.
كان ذلك في الطب مثلاً، حيث كانت "الحكمة" هي الأساس في معرفة الأمراض ومعالجتها، فكان "الطبيب" هو "الحكيم"، ثم تطوّر العلم وأصبح الطب "معرفة" يتلقّاها الدارسون في هذا الحقل، وإذا بالطب الآن "حقل اختصاص محدّد" يقوم على "معلومات" خاصة بجزء صغير من جسم الإنسان، لا على معرفة عامة بكل الجسم وتفاعلاته المشتركة. وهكذا هو الحال تقريباً في عموم العلوم الآن، حيث "الاختصاص" يعني مزيداً من "المعلوماتية" وقلّةً من "المعرفة" العامة، وربما انعداماً لـ"الحكمة" التي هي نعمة من الخالق اختصّ بها بعض البشر.
كانت العصور القديمة تتميّز بوجود مجالس "الحكماء"، الذين يشيرون على الحاكم بما هو الأفضل من الخيارات قبل اتخاذ القرارات. الآن، أصبحت أجهزة المخابرات المعتمدة على "المعلومات"، هي مصدر "إلهام" الحكام عموماً، وغالباً في ظلّ غياب "الحكمة" عند صُنّاع القرار.
ما يصنع "رأي" الناس في هذا العصر هو "المعلومات" وليس "المعرفة"، وهذا ما أدركه الذين يصلون للحكم أو يسعون إليه، كما أدركته أيضاً القوى التي تريد الهيمنة على شعوبٍ أخرى أو التحكّم في مسار أحداثها. فيكفي أن تتحكّم الآن في وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت، كي تصنع "رأياً عاماً" مبنيّاً على ما تغذّيه من "معلومات" قد لا يكون بعضها صحيحاً، لكن يكفي أنّه "معلومة" تتناقلها رسائل الإنترنت أو أثير الفضائيات كي تصبح "حقيقة" تُبنى على أساسها المواقف!
هنا أهمّية "المعرفة" التي يضعف دروها يوماً بعد يوم، وهنا أهمّية "الحكمة" المغيَّبة إلى حدٍّ كبير. فبوجود "المعرفة" و"الحكمة" تخضع "المعلومات" لمصفاة العقل المدرِك لغايات "المعلومات"، ولأهداف أصحابها ولكيفيّة التعامل معها. "المعلومات" قد تجعل الظالم مظلوماً والعكس صحيح، وقد تُحوّل الصديق عدواً والعكس صحيح أيضاً. لكن "المعرفة" و"الحكمة" لا تسمحان بذلك.
كم حريٌّ بنا نحن العرب في هذه المرحلة، أن نستحضر "الحكمة" و"المعرفة" في ظلّ طوفان "المعلومات" الذي يجرف أرض العرب و"فضاءهم" و"يُبرمج" أحداثهم وقضاياهم!
ثلاثيةٌ متلازمة تقوم عليها منذ أكثر من قرن الحياة العربية، هي ثلاثية "الوطنية والعروبة والدين" (والترتيب يقتضيه السياق، لا الأهمية). فمنذ مطلع القرن الماضي، وعقب سقوط الدولة العثمانية، رسم البريطانيون والفرنسيون خريطةً جديدة للمنطقة العربية قامت في محصّلتها دول وحكومات، ثم تبلور هذا الواقع مع النصف الثاني من القرن العشرين بصورة أوطان لها خصوصياتها الكاملة، يعيش العرب فيها وينتمون إليها كهويّة قانونية. لم يكن القصد البريطاني والفرنسي من رسم الحدود بين أجزاء الأرض العربية، مجرّد توزيع غنائم بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين آنذاك، بدلالة أنّ البلدان العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ منهما تعرّضت هي نفسها للتجزئة، لكن كان الهدف الأول من ذلك هو إحلال هويّات وطنية محلية بديلاً عن الهويّة العربية المشتركة، وإضعافاً لكلّ جزء بافتعال انقسامه عن الجزء العربي الآخر. ورافقت هذه الحقبة الزمنية من النصف الأول من القرن العشرين، محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية، والسعي لزرع التناقضات بين الهويّات الوطنية المستحدثة، وبين الهويّات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة والدين في أطر الصراعات الفكرية والسياسية.
ثمّ تميّزت الحقبة الزمنية اللاحقة، أي النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية تغذّي أحياناً المفاهيم الخاطئة عن الوطنية والعروبة والدين، أو لا تجد في فكرها الأحادي الجانب أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. ففي هذه الأمّة الآن مزيجٌ مركّب من هويّات قانونية (الوطنية) وثقافية (العروبة) وحضارية (الدين). وهذا واقع حال ملزم لكل أبناء البلدان العربية، حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويات أو بعضها.
لعلّ العرب هم أحوج ما يكونون اليوم لاستيعاب هذا المزيج من ثلاثية الهويّة. فالبلدان العربية جميعها تعيش الآن مخاطر التهديد لوحدتها الوطنية، كمحصّلة للمفاهيم والممارسات الخاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من البلدان العربية ولا يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية وارتباط مؤسساتها بحزب أو بعائلة، ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من "ثلاثيات الهوية" في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين)، يتطلّب نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد، مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي.
والديمقراطية والتحرّر من الاحتلال ومسألة الهويّة، ثلاثية تفرض نفسها الآن أيضاً على الساحة العربية. فالمشكلة هي في الانفصام الحاصل عربياً ما بين هذه الشعارات، نظرياً وتطبيقياً، كذلك في الجهات الخارجية المهيمنة حالياً على مصائر عددٍ من البلاد العربية.
فالدول الغربية تؤكّد على "المسألة الديمقراطية" في البلاد العربية بينما مارس بعضها، ولا يزال، الاحتلال في هذه المنطقة واستمرار دعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.
بعض دول الغرب وقف في السابق مثلاً مع عملية "الديمقراطية" في العراق وفلسطين ولبنان، لكنّها عادت القائمين على عمليات المقاومة ضدَّ الاحتلال في هذه البلدان. فهي وقفةٌ "غربيّة" مع الحرّيات السياسية والاجتماعية، لكنّها ضدّ حرّية الأوطان!
كذلك الأمر في مسألة الهويّة العربية لهذه الأوطان، حيث يأتي طرح الديمقراطية منعزلاً عن الهويّة العربية، بل متواجهاً معها أحياناً، سعياً لاستبدالها بـ"هويّات" طائفية أو إثنية، ممّا لا يُضعف الهويّة العربية وحدها، بل كذلك الهوية الوطنية الواحدة. وحينما تتحدّث دول الغرب عن مجموعة بلدان المنطقة العربية، فإنّ التسمية تصبح "الشرق الأوسط" وتكون إسرائيل حتماً أحد الأطــــراف المعنــــيّة، ويكون الهدف دائماً التشجيع على التخلّي عن الهويّة العربية و"التطبيع" الكامل مع إسرائيل! أي، تصبح الطائفية والمذهبية بديل الهوية العربية على المستوى الوطني الداخلي، وتكون "الشرق أوسطية" هي البديل على المستوى الخارجي وعلاقات دول المنطقة مع بعضها البعض!!
إنّ الديمقراطية السليمة والإصلاح الشامل مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول الأخرى.
إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهيْ الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلةً عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه.