أعلن الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، يوم الاثنين 20/6/2011، ما سمي: "وثيقة الأزهر لمستقبل مصر". وقد جاءت الوثيقة نتيجة جلسات حوار مطول، شارك فيه شيخ الأزهر وعدد من المثقفين المصريين ومفكري الأزهر. وهذا يكاد يكون الحدث الأول من نوعه في تاريخ المؤسسة الدينية، وهذه من بشريات الربيع العربي الديمقراطي، فقد طالت الرغبة في الحوار الجميع.

كان الأزهر يكتفي بدور المرجعية النهائية، فعندما تشتجر الأمور ويختلف الناس، فهم ينتظرون كلمة الأزهر، فهي الفصل، والآن يدعو الأزهر مثقفين ليبراليين ويساريين وماركسيين لكي يتناقش معهم ثم يصدر وثيقة جماعية. فهذا الانفتاح الأزهري على المجتمع، متنازلاً عن دور المرشد والأب الديني ومالك الحقيقة، مؤشر إيجابي لوصول الحالة الديمقراطية إلى أبواب الأزهر. فقد كان يتوقف عند مجادلة رجال دين مثله وعلى قواعد فقهية ودينية، ولكن القضايا التي وردت في الوثيقة تظهر الأفق الجديد الذي يتحرك فيه الأزهر.

تؤسس الوثيقة الجديدة لوضعية جديدة لعلاقة الدين بالسياسة، والأزهر بالذات. فقد دأب كثير من الجماعات والتنظيمات الدينية السياسية، على التقليل من قيمة رجال الأزهر، رغم أنه رفد الحياة العامة بعلماء وفقهاء أجلاء.

فقد ألصقت بهم صفة علماء السلطة أو فقهاء السلطان، باعتبار أنهم تصدوا لمهمة تبرير أفعال الحكام والبحث عن سند ديني تعسفاً في كثير من الأحيان. وهذه ظاهرة عرفتها المجتمعات الإسلامية كلها، التي صار العلماء فيها جزءًا من الدولة التقليدية.

وقد لا يكون الفقيه منافقا وما يقدمه هو التفسير أو الفهم الذي يراه للدين، فهذه مجتمعات راكدة اجتماعيا وثقافيا، ولا يجب أن نتوقع من عالم هذه المجتمعات أن يحاول التجديد والمغامرة الفكرية.

لذلك، تظل الأفكار والفتاوى التي يقدمها الفقيه محافظة وعتيقة، وهذا هو سقف الفهم لديه. ويقود ما تقدم إلى سؤال حول من هو صاحب السلطة الدينية، وكيف يكتسبها؟ وقد بدأ هذا السؤال مع الجدل حول من يحق له أن يفتي؟ وما هي شروط الإفتاء؟ وفي هذه الحالة يحاط الفقيه بكثير من الشروط، وعلى رأسها العلم والمعرفة، ولكن لا بد أن يصحب ذلك الورع وحسن النية والحلم، وغيرها من صفات العلم والعمل.

وقد جرى العرف والمهنية أن يتم اختيار شخصية متميزة وذات كفاءة لمنصب شيخ الأزهر، ولكن الصراع السياسي كان يجعله دائما تحت مرمى التراشق بين الفرق المتنافسة، بالذات في ظروف الأزمات والصراعات.

ففي السنوات الأخيرة كان شيخ الأزهر السابق في قلب الصراع السياسي، مما أفقد المنصب كثيراً من هيبته وقيمته. والجديد في الأمر أن الأزهر وشيخه الآن يدخلان إلى المعركة عن قناعة ذاتية وبرؤية واضحة. فقد كادت الظروف السابقة أن تحرم الأزهر من بعض أمجاده، فقد أطلق عبدالناصر كثيرا من قراراته الوطنية التاريخية من صحن الأزهر. فهذه عودة لدور كاد أن يغبر ويندثر.

أتمنى أن تكون وثيقة الأزهر سبباً في وقف الاستقطاب الحاد والمفتعل بين الجماعات والتنظيمات الإسلامية، وبين العلمانيين والليبراليين. فهناك من الإسلاميين من يروج لأن الفئة الأخيرة تعمل على "طرد" الدين من الحياة. ويصرون على استخدام كلمة "طرد" لما لها من إيحاءات ودلالات عند المتلقي، مما يجبره على اتخاذ موقف سلبي تجاه العلماني أو الليبرالي.

وفي الواقع لا يوجد أي علماني أو ليبرالي يعيش في العالم العربي - الإسلامي، يجرؤ على القول بطرد الدين عن الحياة، وأقصى ما يمكن أن يطالب به هو إبعاد الدين عن الحزبية أو السياسة، وذلك بسبب موقع الدين في حياة الناس.

وهذه معركة لا يوجد عاقل يريد أن يُجر إليها، وقد رأينا مصائر كتاب وروائيين لم يتعرضوا صراحة للدين، بل تم تأويل ما كتبوا وحوكموا حسب النوايا. وقد خلت وثيقة الأزهر تماما من التعرض لهذه الإشكالية والمشكلة بأية صورة من الصور، مما أضفى عليها سمة من التسامح المرغوب.

انطلقت الوثيقة مما سمته دور الأزهر القيادي في بلورة الفكر الإسلامي الوسطي السديد، وهذا بالتأكيد منهج مهم في البعد عن أي انحراف أو تعصب، خاصة في تحديد علاقة الدين بالدولة وبيان أسس السياسة الشرعية الصحيحة. وتقوم الوثيقة على اعتماد "البعد الجامع للعلم والريادة والنهضة والثقافة، في الوطن العربي والعالم الإسلامي".

وهنا تصل الوثيقة إلى تركيبة هي من جدل الديني والمدني، دون أن تقول ذلك صراحة. فقد استلهم اللقاء - كما تقول المقدمة - روح تراث النهضة والإصلاح في الأزهر، التي ابتدرها الشيخ حسن العطار ثم رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده وتلاميذه، من أمثال المراغي ودراز ومصطفى عبد الرازق وشلتوت وغيرهم.

ولكن الجديد في مرجعية وثيقة الأزهر الراهنة، هو التأكيد على استلهام "إنجازات كبار المثقفين المصريين ممن شاركوا في التطور المعرفي والإنساني، وأسهموا في تشكيل العقل المصري والعربي الحديث في نهضته المتجددة، من رجال الفلسفة والقانون، والأدب والفنون، وغيرها من المعارف التي صاغت الفكر والوجدان والوعي العام". توافق المجتمعون على المبادئ التالية، والتي تعتبر معبرة عن جوهر الإسلام:

1- دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة. وهنا تجنبت الوثيقة - بذكاء - النقاش الدائر حول مدنية أو دينية الدولة.

2- اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر. وهنا حسم الخلاف حول الشورى، باعتبار أن هذه هي الصيغة العصرية للشورى: التعددية الحزبية، البرلمانية والرقابة والمحاسبة، وحكم القانون، وحقوق الإنسان.

3- الالتزام بالحريات الأساسية.

4- الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، بحيث يتم اجتناب التكفير والتخوين.

5- تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية.

6- احترام حرية العقيدة وتقديم كل الضمانات للأديان المختلفة.

7- اعتبار التعليم والبحث العلمي مسؤولية الدولة، ودخول مصر عصر المعرفة وقاطرة التقدم الحضاري.

8- إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد.

9- بناء علاقات مصر الدولية على أساس التعاون على الخير المشترك.

10- تأييد مشروع استقلالية الأزهر، وقيام هيئة كبار العلماء باختيار الإمام الأكبر، والعمل على تطوير مناهج التعليم الأزهري ليسترد دوره الفكرى الأصيل.

11- اعتبار الأزهر الشريف الجهة المختصة التي يرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهادات الفكر الإسلامي، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى توافرت له الشروط العلمية اللازمة.

تجتهد وثيقة الأزهر في حل اشتباكات المعارك الحالية بين الأحزاب التي ترفع شعارات دينية، وبين بقية القوى السياسية. في أميركا اللاتينية لعبت الكنيسة دورا تقدميا رائدا تمثل في لاهوت التحرير، فهل يمكن للأزهر أن يبادر في إحداث التغيير مساعدا السياسيين؟