تواجه الثورات العربية والانتفاضات الشعبية المكتملة-مصر وتونس، وغير المكتملة-ليبيا واليمن وسوريا، صعوبات وتحديات تكاد تعصف بكل ثمار ذلك الفعل النادر والمعجز. ففي مصر انفجرت كل مشكلات المرحلة الانتقالية من تصفية النظام القديم والتحضير للانتخابات، أمام الثوار غير المستعدين تماماً لمعالجة تلك القضايا وحسمها بصورة ترضي كل ذلك التنوع السياسي.
وفي تونس فقد برزت بالإضافة للاستحقاقات الانتقالية السابقة، صراعات العلمانيين والإسلاميين. أما في بلدان الثورات الناقصة: ليبيا واليمن وسوريا، فمع تصاعد القتل والقمع تقف هذه الدول على حافة الحرب الأهلية والتقسيم. ويبدو أن الدرس الذي تعلمه رؤساء الدول الثائرة ولم يسقطوا بعد، هو ضرورة التشبث بالسلطة مهما كان الثمن.
وهذا ما يفسر الاستخدام المفرط للعنف في ليبيا وسوريا واليمن. ومن الغريب ألا تتوقف المظاهرات والاحتجاجات في مصر، وتستمر حتى اليوم رغم سقوط الرئيس المخلوع في فبراير الماضي. صحيح أن الثورة يجب ألا تتوقف ولكن يجب أن تتقدم. ولكن ما يحدث الآن تكرار للقضايا: فكم تعديلاً وزارياً أجري خلال هذه الفترة؟
بل السؤال الحقيقي هو لماذا التعديل أصلاً، إذ يفترض في الحكومة التي تأتي بعد ثورة سفكت فيها كل هذه الدماء، أن تكون بالضرورة معبرة عن أشواق وغايات الثورة والثوار. ويحار المرء حقيقة من الذي يختار للثورة وزراءها؟ وفي النهاية ظلت الفترة منذ سقوط الرؤساء تزداد غموضاً وتدهوراً ولم يفرح الثوار بإنجازاتهم بل زادت المعاناة مما يحبط الثوار. والمهمة الصعبة الآن كيف الخروج من هذا المأزق وتأمين الثورات الظافرة والناقصة؟
كانت معضلة الربيع العربي هي موضع ودور المؤسسة العسكرية في الثورات. فهل هي قائدة أم مساندة أم حامية أم قامعة للثورة؟ وكانت معظم التحليلات التي تناولت موجة الانقلابات التي سادت العالم العربي بعد النكبة ترى في الجيش المؤسسة الأكثر حداثة وكفاءة مقارنة بالأحزاب والخدمة المدنية والمجتمع المدني. فقد تدرب أفرادها في الخارج، وتعرفوا على التكنولوجيا الحديثة، وخصصت لهم ميزانيات عظيمة. لذلك، كانت لهم أفضلية مكنتهم من الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها نسبياً.
وبعد هذا التطور كان من الطبيعي أن يشكلوا طبقة أو فئة اجتماعية حققت امتيازات اقتصادية وسياسية من خلال السيطرة على جهاز الدولة. ولم تعد المؤسسة مجرد جهاز
فني يقوم بمهمة الدفاع عن الوطن فقط. وفي مصر لم تنته ثورة 23 يوليو واستمرت تزود البلاد برؤساء الجمهورية والمحافظين وحتى إداريي الأحياء. وبسبب هذه الخلفية كان لابد أن يكون للجيش دور رئيس في ثورة 25 يناير، ويحمد لها الكثيرون فضيلة حفظ دماء الشعب المصري ويقارن الجميع بما حدث في بلدان الثورة الناقصة. وهذا بالمناسبة يؤكد الدور الحاسم للمؤسسة العسكرية. وفي الحالات الثلاث، لم تكتمل الثورة ولم تنتصر ولم تهزم، لأنها لم تحدد موقفها: الانحياز للشعب أم للسلطة الحاكمة؟
يتزايد نفوذ العسكر دائماً في الثورات حين يدور الحديث عن الحرية مقابل الفوضى، لأنه في الحقيقة يتحول إلى المقابلة بين الدكتاتورية أم الفوضى؟ إذ يعرض الأمر وكأن الشعب قد عجز عن ممارسة حريته بمسؤولية ولذلك لا مانع من أن يحرم منها.
وفي هذه الحالة تمارس بالوكالة أي نيابة عنه بواسطة جهة تدرك مصالحه أفضل منه، وهذا شكل للمستبد العادل أو المستبد الوطني الذي سيطر على المنطقة لأكثر من نصف قرن. وفي مصر وجد المجلس العسكري نفسه الضامن والمشرف على الحكومة رغم وجود رئيس للوزراء.
وفي هذه الحالة لا يتحمل الأخطاء. ورغم هذه الوضعية الحذرة دخل المجلس العسكري في قلب الصراع خاصة حين هاجم علانية وبالاسم، حركة 6 أبريل. وردت (الحركة) على الهجوم في الصحف وسوف تعقد مؤتمراً صحافياً لتفنيد تهم المجلس حسب قولها. ولكن المشكلة في تجاذب بعض القوى السياسية للمجلس العسكري ومحاولة كسب وده. فقد انقسمت الأحزاب السياسية بين مؤيدة ومعارضة ومحايدة تجاه المجلس، وهذا وضع شديد الخطورة على مستقبل الديمقراطية في مصر.
أما العاصفة الأخرى فتأتي من الاستقطاب الديني-العلماني. رغم عدم دقة هذا التصنيف الذي يعطي الطغاة العرب صفة ليست منطبقة عليهم إلا بسبب قمعهم للجماعات الإسلامية ووضعهم في السجون، فهل هذه هي العلمانية؟، تدور الآن معركة مفتعلة بين فلول النظم البائد والوضع الجديد، ويصر البعض على تسميتها بالمعركة مع العلمانيين. ويوجد علمانيون حقيقيون ولكنهم لا يريدون في الوقت الراهن الدخول في معارك جانبية.
ولكن الجماعة الإسلامية وعدت على لسان المهندس عاصم عبدالماجد عضو مجلس الشورى، بتطهير ميدان التحرير من العلمانيين والليبراليين والمسببين للفوضى، في جمعة الشرفاء (29/7/2011). وهذا شكل من أشكال الحرب الأهلية التي سوف تساهم، بشدة، في شق الصف الوطني مجاناً أي من دون وجود قضية حقيقية. فالشعب المصري ليس في حرب صليبية، بل خرج مطالباً بالحرية والكرامة والعدالة. كما انه من اختبارات الديمقراطية ممارسة قبول الآخر المختلف.
فالديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع وبرلمان ودستور، ولكنها التطبيق العملي لشعار الحرية لنا ولسوانا. ومن الملاحظ أن القضايا السياسية الدنيوية سرعان ما تحول الى خلافات دينية وعقدية. وهذا هو عين الخطر على الثورات والربيع العربي الذي يمكن أن يتحول الى خماسين.
العاصفة الثالثة وهي الأعتى: المشكلة الاقتصادية والتي يتم التعامل معها بلامبالاة غريبة. هناك عوامل اقتصادية خارج إرادة المواطنين مثل قطاع السياحة، ولكن التراخي وعدم الجدية في الإنتاج وعدم الوعي بضرورة رفع مستوى المعيشة وتلبية الحاجات الأساسية، سيمثل ضربة قاضية لمبادئ وشعارات الثورة. وهذا التدفق في المطالب الفئوية يأتي في توقيت غير مناسب ويزيد الضغوط على حكومات ما بعد الثورة في مصر وتونس.
فهي تعترف بالمشاكل ولكن ليست قادرة في هذه الظروف على حلها مع الظروف الاقتصادية التي يدركها الجميع. فالأجور ضئيلة فعلاً والاسعار متصاعدة، ولكن هذا باب واسع يصعب سده لو فتح دون تأن. وهذه هي التضحيات التي يجب القيام بها، طالما العاملون يعون أن الأموال لا تذهب فساداً. من ناحية أخرى، الإبداع والإخلاص في الإنتاج هو في حد ذاته فعل ثوري بامتياز. ولا بد أن ينتهي هذا الوجود المستمر في الميادين، ولابد من توقف التهرب المتكرر من العمل.
أخيراً، لا بد من عودة الأمن والاستقرار، وهذا هو الأمن الذي ننشده. فهو أمن الوطن والمواطن وليس أمن الدولة والسلطة، فقد صارت كلمة «أمن» سيئة السمعة لأنها ارتبطت بالقهر والتخويف وأمن السلطان. ومن الملاحظ أن رجال الشرطة والأمن أصبحوا هدفاً للسخط والغضب والانتقام، وهذه ظاهرة خطيرة وتمثل عاصفة يمكن أن تقتلع كل شيء.
ورغم ختم المقال بهذه العاصفة، إلا أنها ذات أولوية وأهمية قصوى. إذ إن غياب الأمن يجعل الوطن مكشوفاً وهشاً، ولا يمكن في هذه الحالة حماية كل العناصر الأخرى التي مر ذكرها.