أكتب هذا المقال تحت تأثير التقرير الذي استمعت إليه صباح الأربعاء الماضي في إذاعة "بي. بي. سي" العربية، وهي تودع أحد الأصوات الإذاعية المميزة التي أعطت "هنا لندن" خصوصيتها ونكهتها. والكتابة تحت أي مؤثر خارجي ربما تصطبغ بالعاطفة أكثر مما تصطبغ بالموضوعية، لكن العاطفة في مثل هذه المواضيع لا تتعارض مع الموضوعية، بل ترفدها بزخم من الإحساس يجعلها أكثر صدقا وتأثيرا.
"بعض الأصوات مثل ساعة بيغ بن، عندما تستمع إليها تعرف أنك تستمع إلى إذاعة لندن"، هكذا وصفت إحدى زميلات المذيع "حسام شبلاق" صوت زميلها الذي ودع الإذاعة البريطانية، بعد مسيرة حافلة تواصلت على مدى عقود ثلاثة، كان خلالها نجما من نجوم "هيئة الإذاعة البريطانية" في قسمها العربي الذي ضم، خلال الحقبة الذهبية من تاريخها، أسماء وضعت بصمتها على العمل الإذاعي، أمثال الروائي السوداني الطيب صالح.
والمذيع الأديب صاحب البرنامج الشهير "قول على قول" حسن الكرمي، ونجوم المدرسة المتميزة في التعليق الرياضي؛ أكرم صالح، وموسى بشوتي، وأفتيم قريطم، ومنير شما، وعلي أسعد، ومحمد مصطفى رمضان، وماجد سرحان، ومديحة المدفعي.
وهدى الرشيد.. حيث تطول قائمة المبدعين الذين تركوا بصمتهم على التقديم الإذاعي، حين كان المستمعون يستمتعون بسماع عبارة "هنا لندن"، التي اقترنت بدقات ساعة "بيغ بن" المعروفة، حتى غدت إذاعة "بي. بي. سي" الناطقة باللغة العربية مدرسة قلّ أن تجد لها مثيلا بين الإذاعات، تلك المدرسة التي حتى لو اختلفنا حول توجهاتها، فإننا لن نختلف حول مهنيتها، خاصة في اختيار المذيعين.
وفي برامجها التي أدمنتها أجيال من المستمعين العرب، يوم أن كان للإذاعة سطوتها وتأثيرها، ويوم أن كانت برامج مثل "السياسة بين السائل والمجيب" و"قول على قول" و"لكل سؤال جواب"، مصدرا من مصادر الثقافة الموثوقة، لأنك تستمع إليها من إذاعة لندن.
في أواخر شهر فبراير الماضي، أقامت "ندوة الثقافة والعلوم" في دبي أمسية بمناسبة احتفال دولة الكويت الشقيقة بالذكرى الخمسين لاستقلالها، وتضمنت الأمسية محاور عدة، كان من بينها "العلاقات الإعلامية" التي لعبت الكويت دورا رائدا فيها، حيث ساهمت في إدخال الإعلام المرئي إلى الإمارات قبل قيام الدولة الاتحادية، عندما أنشأت عام 1969 "تلفزيون الكويت من دبي" الذي كان، وتلفزيون أبوظبي، أول محطتي تلفزيون محليتين عرفتهما الإمارات في أواخر الستينيات من القرن الماضي.
كان من ضيوف تلك الندوة المذيع والإعلامي الكويتي القدير ماجد الشطي، وهو أحد الرواد الذين ابتُعِثوا للعمل في "تلفزيون الكويت من دبي" قبل 42 عاما، وقد عاد إلى الكويت بعد قيام دولة الإمارات وإهداء الحكومة الكويتية التلفزيون إلى وزارة الإعلام والثقافة التي ضمته إلى تلفزيون أبوظبي.
وفي عام 1977 استقدم تلفزيون أبوظبي ماجد الشطي للاستفادة من خبرته في تدريب المذيعين، فكان له الفضل في استقطاب وتأهيل العديد من المواطنين الذين أصبحوا بعد ذلك نجوما في مجال الإعلام التلفزيوني الإماراتي، مذيعين وقارئي نشرات أخبار، ما زالت أصواتهم تتردد في آذان أولئك الذين عاشوا تلك المرحلة، وستبقى أسماؤهم رمزا لمرحلة من أهم مراحل الإعلام الإماراتي، لأنها مرحلة البدايات والتأسيس.
تحدث ماجد الشطي في المحور الذي تناول خلاله العلاقات الإعلامية الإماراتية الكويتية، عن المذيعين الإماراتيين الأوائل الذين كانوا نجوم تلك الفترة، مستعرضا الأسماء التي كانت مألوفة لدى من يتذكرونها، وتساءل: أين ذهبوا؟ فكان الصمت هو سيد الموقف.
اختفت تلك الأسماء، واختفى معها أصحابها الذين انتقلوا إلى زوايا النسيان، ولم يعد أحد يتذكرهم أو يذكر لهم ما قدموا من إسهامات قيّمة لإعلام الإمارات، في مرحلة تعد الأصعب بكل المقاييس، ولم يتم تكريمهم، كأن أدوارهم في الحياة انتهت بنهاية مرحلة وبدء مرحلة.
ماجد الشطي الذي دخل الإذاعة الكويتية عام 1964م كأصغر مذيع كويتي، وكان عمره وقتها 22 عاما، ما زال يواصل عطاءه حتى الآن، وما زال يطل على مشاهدي تلفزيون الكويت بصوته الإذاعي المميز، وطلته التي لم يقل أحد إنها قد تقادمت أو تآكلت بفعل الزمن، وهو يوشك أن يكمل خمسة عقود مضيئة من العمل الإعلامي حتى الآن.
بينما أسدلت ستائر النسيان على الكثير من مذيعينا والرواد الأوائل الذين قدموا لإعلامنا الإماراتي الكثير، في زمن كان الإعلام فيه وافدا جديدا على أرضنا، لا يمتلك أبناء الإمارات وقتها الخبرة المطلوبة فيه، لكنهم تعلموا وثابروا، وكان للكويت الفضل في ابتعاث بعضهم إلى تلفزيونها وإدخالهم دورات مكثفة في مختلف أقسام العمل التلفزيوني، ليصبحوا بعد ذلك نجوما في بلدهم.
الرواد هم رصيد الأمم الذي يشكل لها مخزونا علميا ومعرفيا وحضاريا ثرًّا، وهم مصدر فخر واعتزاز لها، لأنهم أبناؤها الذين أسهموا في بناء نهضتها وتشييد أركانها. وتكريم هؤلاء الرواد يشعر الأجيال الحاضرة والمقبلة بأن الوطن يقدّر العمل، ويحفظ حق أولئك الذين عملوا في ظروف أصعب من الظروف التي تعمل فيها أجيال اليوم، وتلك التي سيعمل فيها أبناؤهم وأحفادهم، بفعل تطور الحياة وتوفر الإمكانات التي لم تكن متوفرة لمن سبقهم إلى العمل والتأسيس والبناء.
عندما نتحدث عن الرواد فإننا لا نخصّ مجالا معينا، وإنما نقصد كل المجالات، باعتبار أن البناء يحتاج إلى كل يد، من قمة الهرم إلى أسفله، وفي كل ركن من الأركان التي يقوم البناء عليها. لذلك نجد المجتمعات المتقدمة تحفظ لكل عامل حقه في التكريم المادي والمعنوي.
ولا تحيله إلى الاستيداع كما نفعل بأشيائنا القديمة، بل إنها تعتبر الرواد ثروة ورصيدا من الخبرة، تعود إليه وهي تخطط للانطلاق نحو المستقبل، متطلعة إلى آفاق أرحب من النجاح والتقدم.. يحدث هذا في كل المجتمعات المتقدمة والأمم ذات المبادئ والقيم الراسخة.
لهذا يحق لنا أن نطالب بتكريم أولئك الرواد، وحفظ حقهم في البقاء ضمن ذاكرة الوطن التي تتسع للجميع، ولن تضيق في يوم من الأيام عن أحد، لأنها ذاكرة وفية وأصيلة أصالة الوطن نفسه.