طبعاً التاريخ لا يكرّر نفسه، فهناك دائماً ظروف وعناصر جديدة ومتغيّرات تحدث. لكن البشر، كأفرادٍ وجماعات، يكرّرون في سيرة حياتهم الأخطاء، ويتجاهلون الدروس والعبر من تجاربهم.
هكذا هو الآن حال العرب والغرب معاً. فالبلاد العربية تشهد حالياً مرحلة تحوّل تاريخي ستصنع مستقبل هذه البلاد لعقودٍ من الزمن، تماماً كما حدث منذ مئة عام تقريباً حينما شهدت المنطقة العربية تحوّلاً مهماً بخروجها من الهيمنة العثمانية ونشوء الكيانات العربية المعاصرة.
في تلك الفترة، كانت هناك دواعٍ وأسباب مشروعة لاستقلال العرب عن الدولة العثمانية، التي سيطرت عليها في أيامها الأخيرة اتجاهاتٌ عنصرية تدعو إلى "التتريك" في اللغة والثقافة والسياسة، والتي كانت بذورها تنمو في "جمعية الاتحاد والترقي" وفي "جمعية تركيا الفتاة"، ثم تمكُّن هذه الاتجاهات من حكم تركيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وفوز "دول الحلفاء" فيها.
وبينما كانت بريطانيا تدعم بقوة هذا التحوّل في الحياة السياسية والثقافية التركية، كانت حليفتها (ومنافستها) فرنسا تدعم الأنشطة العربية الداعية لمواجهة "التتريك". وقد عملت بريطانيا وفرنسا معاً على تشجيع ودعم الانفصال التركي/ العربي وتقوية المشاعر القومية الخاصة في الأمَّتين بدايةً، وعملتا في مرحلةٍ لاحقة على دعم التتريك واعتماد الأحرف اللاتينية في تركيا، مقابل دعم "التغريب" ومحاربة العروبة في البلاد العربية.
كانت بريطانيا قوّة الدفع الأساسية وراء ثورة الشريف حسين ضدَّ الدولة العثمانية، كما احتضنت فرنسا ودعمت "الجمعية العربية الفتاة " و"المؤتمر العربي" في باريس (1913)، وتكوّنت جمعيات في بيروت تعاونت مع جمعيات في المهجر، وقُدِّمت رسائل مشتركة من بعض هذه الجمعيات، إلى حكومة فرنسا تلتمس منها السيطرة على منطقة سوريا ولبنان، بينما اتّجه بعض مثقفي العراق نحو الإنجليز، حيث أيّد بعضهم بسط الحماية البريطانية على البلاد.
وانتهت تلك الحقبة الزمنية الهامّة بهيمنة بريطانيا وفرنسا على معظم البلاد العربية، بعد تقسيمها وتوزيعها بين القطبين الدوليين آنذاك وفق اتفاقية "سايكس ـ بيكو". كما شهدت تلك المرحلة انطلاقة مشروع الحركة الصهيونية، الذي كرّسه التعهّد البريطاني المعروف باسم "وعد بلفور"، والذي تحقّق بإنشاء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني.
وحينما تولّت الولايات المتحدة قيادة الغرب والقوى الكبرى، كرّرت خطايا المستعمر الأوروبي في أكثر من مكانٍ وزمان، وهي الآن تدفع الثمن غالياً لهذه الخطايا، مما يُهدّد دورها الريادي العالمي، تماماً كما حصل مع بريطانيا وفرنسا في آخر حروبهما في المنطقة، خلال حقبتيْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والتي كانت مصر فيها تقود معارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي.
فالقوى الغربية الكبرى لم تدرك بعد أنّه رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها، ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم، ورغم "العلاقات الخاصة" مع بعض الحكومات، فقد حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان، كما حصلت حرب أكتوبر 1973 والحظر النفطي عن الغرب.
لكن للأسف، فكما أنّ الغرب لم يتعلّم من تجارب "قابلية الاستعمار للانكسار"، فإنّ العرب، في المقابل، لم يتعلّموا أيضاً من "قابلية ظروفهم للاستعمار".
فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديداً) لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن. لم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية.
والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي يتمّ الآن تجاهلها أيضاً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ دينية أو اثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد.
إنّ المنطقة العربية تتميّز عن غيرها من بقاع العالم، بميزاتٍ ثلاث مجتمعةٍ معاً: فأولاً، تتميّز أرض العرب بأنّها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلّع كلّ المؤمنين بالله على مرّ التاريخ، وإلى مدنها المقدّسة يحجّ سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.
وثانياً، تحتلّ أرض العرب موقعاً جغرافياً مهمّاً، جعلها في العصور كلّها صلة الوصل بين الشرق والغرب، بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، وبين حوض المتوسّط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي المهم، خرجت أو مرَّت كلّ حضارات العالم القديم والحديث.
وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيراتٍ طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنّها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم. فهكذا كان الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي، وصولاً اليوم إلى عصر "البترو ـ دولار" القائم على مخازن النفط في أرضنا.
وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محطّ أنظار كلّ القوى الطامعة في السيطرة والتسلّط..أيضاً، تتميّز المنطقة العربية، في تاريخها المعاصر، عن باقي دول العالم الثالث، بأنّ القوى الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة، وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة، وفق الترتيبات الدولية التي وضعتها في مطلع القرن العشرين القوى الأوروبية الكبرى.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما زال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادّية والبشرية)، وإلى صعوبة تأمين مشروع عربي فاعل يواجه المشاريع والتحدّيات الخارجية، أو يمكّن من القيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة، ممّا يبرّر في نظر البعض، الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات..
فهناك على الطرف العربي غيابٌ للقرار السياسي بالتعاون والتكامل؛ ثمّ إذا ما توفّر هذا القرار عابَهُ سوء الأسلوب في الإدارة والتعامل والخطط التنفيذية، كما حصل في تجارب وحدوية عربية عديدة أدّت نتائجها إلى مزيدٍ من الشرخ بدلاً من الاتحاد.
إنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن، لا تنحصر فقط في المخاطر الناجمة عن عدم إدراك العرب دروس تاريخهم وأهمية موقع أوطانهم وثرواتها، بل أيضاً في سوء رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم، ولكيفية إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية.
وتنذر تداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضاتٍ شعبية في بعض البلدان العربية، بالتحوّل إلى حروبٍ أهلية عربية يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
فإذا كانت الآن الثورات والانتفاضات العربية ظواهرَ مشرقة واعدة بغدٍ أفضل، فلا يجب أن يحجب النور الحاصل من هذه "المتغيرات"، ما يستمرّ "ثابتاً" في المنطقة من خطر الاحتلال الإسرائيلي ومحاولات الهيمنة الأجنبية، في ظلّ أجواء طائفية ومذهبية تنخر الجسم العربي، وتهدّد وحدة أوطانه، وتُسهّل السيطرة الخارجية عليه.