يعود العيد هذا العام على أغلب الشعوب العربية بالكثير الجديد والمثير، ما عدا الشعب السوداني الذي لا تزال نخبته ممسكة بجلباب المتنبي وتسأل العيد، قلقة معه، وأكثر من محتارة: عيد بأية حال عدت ياعيد؟ ويا ليته عاد بما مضى، فالحال ساء كثيرا، ويتدهور كل يوم أكثر من اليوم السابق، وأصبح السودانيون بامتياز شعب الأماني المؤجلة طويلا، ويردد في يأس أو على أمل باهت: السنة الجاية تتحقق الأماني، أو السنة الجاية على أمانيك.

وتجيء السنة الجاية وتمر السنون، ويبقى الحال متدهورا: لو رآه الواشي لقرت بلابله، حسب مواعيد بثينة عند جميل. ومع الاحباط المستدام وخيبة الأمل التي طالت الجميع، وهذا الوضع ليس سياسيا بحتا، بل هو حالة نفسية وروحية وشعورية عامة، لا تفرق بين حاكم أو محكوم، بين معارض أو موالٍ.

وللمفارقة، الحاكمون - رغم مظهر العنجهية والاستعلاء - هم الأكثر انكسارا في دواخلهم، بسبب فشل مشروعهم الذي استباحوا من أجله كل القيم الإسلامية والسودانية. فقد شاهدوا بأعينهم كيف انتهى حلمهم بمجتمع المدينة والفردوس الأرضي، إلى دار المايقوما والتقاوي الفاسدة وطريق الإنقاذ الغربي وغيره وغيره. وهرع جميع السودانيين إلى عالم افتراضي متعدد الأوجه، ولكنه خيالي في النهاية، لأنه يشيد الوطن أو المجتمع الذي يبتغيه في الكلمات والكلام: القصائد، المدائح، الخطب.. وبقي الإنجاز وتحقيق الذات وتحويل الأحلام والمشروعات إلى واقع، مجرد توهمات لفظية.

ويأتي العيد الأول بعد الانفصال، وقد تركنا للأجيال القادمة، الوطن الواحد وطنين، مع زيادة محتملة. ولم ألحظ الحزن والندم في وجوه وكلام الوحدويين خلال العيد، وكأن حدث الانفصال قد مرت عليه قرون تكفي للتناسي والنسيان، وليس مجرد خمسين يوما. وهذا بعض نجاحات النظام في بث روح اللامبالاة والانصرافية بين المواطنين! ولم يلتفت المواطنون إلى العيد الذي يمر عليهم وقد فقدوا ثلث وطنهم، لأن الانشغال بالغلاء المنفلت وانقطاعات المياه والكهرباء، كان أقوى بحيث ينسيهم أوجاع الوطن. مثل هذا السلوك يفرض علينا إعادة طرح سؤال: من المسؤول عن الانفصال في الجنوب؟

تقع المسؤولية على عاتق الحركة الإسلامية ونظامها الحاكم، بسبب تشبثها بالسلطة مهما كانت فداحة الثمن على البلد. ولكن هذا لا ينفي صمت الآخرين، الذي قد يصل لدرجة التواطؤ السافر حين يمر هذا الحدث العظيم بهذه السلاسة الغريبة. فلماذا لم تطرقوا الأبواب؟ كما قال غسان كنفاني في "رجال تحت الشمس". فالتاريخ لن يرحم، فموقف الانفصاليين كان على الدوام واضحا ومعلنا، ولكن المشكلة في الذين سهلوا عليهم المهمة بعدم مقاومة المخطط.

جاءت الثمار المرّة للانفصال سريعا، ليواجهها النظام السوداني بكثير من الاضطراب والنرفزة. ففي العشر الأواخر وأيام قليلة قبل العيد، زار وفد إسرائيلي جوبا، ثم أعلن عن قرب إقامة علاقات دبلوماسية بين حكومة جمهورية جنوب السودان وإسرائيل، وستكون سفارة حكومة جنوب السودان في القدس وليس تل أبيب، وما لذلك من دلالة. وتقع هذه المواقف ضمن نظرية سياسية سودانية أرساها الشيخ حسن الترابي، أسماها: المكايدة السياسية، وهي بالدارجة السودانية: المكاواة. وتعني اتخاذ مواقف أو القيام بسلوك يهدف إلى إغاظة الطرف الآخر، بغض النظر عن أي جدوى أو فائدة تنتج عن هذا الموقف أو السلوك.

ويقع هذا التقارب السريع، ضمن المكايدة السياسية للنظام السوداني في الشمال، فقط. فقد ظل السودان محاطا بدول ذات علاقات وثيقة ومؤثرة مع إسرائيل، ومع ذلك لم يتضرر السودان ولم يحتج على الوجود الصهيوني، بل ظلت علاقاته مع دول مثل إثيوبيا وكينيا متميزة. وبالتأكيد، يخفي النظام السوداني سروره بهذه العلاقة، لأنه سيقدم نفسه كدولة ممانعة ومقاومة، بدعوى أن إسرائيل موجودة على حدوده الجنوبية! هذه العلاقة ليست لها أي قيمة في تغيير ميزان القوى في المنطقة، غير مساعدة النظام السوداني في مزايداته النضالية ضد الإمبريالية والصهيونية!

يبدو أن التطورات في جنوب كردفان ازدادت تعقيدا، ولم يعد الحل الأمني أو العسكري ممكنا، إذ لم يتمكن النظام من اعتقال عبد العزيز الحلو "المطلوب" من قبله، ولا حسم القتال رغم القصف الجوي المتواصل. وفي هذه اللحظة يقوم النظام بممارسة سياسته الخاصة بترحيل أزماته إلى الخارج. ويفاجئ النظام العالم بتقديم شكوى لمجلس الأمن ضد حكومة الحركة الشعبية في الجنوب، وهذا دليل مبكر للفشل في إقامة علاقات ودية مع الجنوب، وعدم ترسيخ مبدأ الحوار الثنائي والتفاهم.

وتقوم الشكوى على قرائن أحوال واحتمالات التعاون بين حركات الهامش المسلحة، وهذه حالة يصعب فيها تقديم أدلة ملموسة وقاطعة. وتقدم الشكوى المبررات وتبرئة الذمة في حالة التصعيد، وهذا ما فعله النظام، إذ شرع عقب الشكوى مباشرة في معاودة القصف الجوي، وتحول جنوب كردفان إلى ساحة قتال، مما يعني وأد المشورة الشعبية وكل ترتيبات اتفاقية السلام الشامل.

ويصر النظام على إفساد أي بقية من بهجة العيد، بدخوله في نزاع مسلح في الدمازين - النيل الأزرق. وبغض النظر عن من الذي بدأ بإطلاق النار، يتوقع دائما أن تكون الدولة المركزية صاحبة حكمة وحسن تقدير للمواقف، وألا تنجر سريعا إلى استخدام القوة المفرطة عند أي استفزاز. ولكن يبدو العكس، وهو أن حكومة الشمال كانت تتحين الفرصة، لأنها كما يقول المصريون "وضعت مالك عقار والي النيل الأزرق في دماغها"، وأرادت إلحاقه بمصير عبد العزيز الحلو. ودخل النظام في مجموعة من الأخطاء، على رأسها إقالة الوالي المنتخب شعبيا، حتى وإن سمح الدستور للرئيس بذلك، إلا أن الضرر السياسي كبير على الانتخابات المجروحة أصلا.

وثاني الأخطاء التسبب في كارثة إنسانية، فقد تحدثت الأخبار عن نزوح الآلاف من مناطق العمليات في المدينة. وهذا ما يلفت انتباه المجتمع الدولي أكثر لبؤر النزاع ويستدعي التدخل. والأهم من ذلك كله، هو أن القتال في الدمازين يعني الانتهاك الكامل لاتفاقية السلام الشامل، لأنه فعليا اندلع في المناطق الثلاث المتنازع عليها: أبيي، جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق.

يودع السودان العيد، ونظامه الحاكم مطوق بالأزمات كالسوار. ولا حل له وللبلاد، إلا بالمخرج القومي الذي يرفضه النظام، مفضلا احتكار السلطة بغطاء أحزاب وهمية، يعلم هو وزنها وقيمتها قبل غيره. ويجب ألا يستغل توهان الأحزاب وتشرذمها إلى الأبد، فللّه جنود من عسل. ويلاحظ المراقب أن ثورات الربيع العربي لم تشهد أي تكرار لتجربة بلد آخر، كما أن السودان هو أضعف حلقات الأزمات العربية وأكثرها هشاشة، والدليل على ذلك الطريقة الناعمة التي انفصل بها الجنوب.