قبل إعلان «المجلس اليهودي الصهيوني» في فلسطين لدولة «إسرائيل» في 14/5/1948، ومطالبته لدول العالم بالاعتراف بالدولة الإسرائيلية الوليدة عشيّة انتهاء الانتداب البريطاني، سبقت ذلك عشرات السنين من التهيئة اليهودية الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون «يوم النكبة».
وكانت خلف هذا الإعلان منظمة صهيونية عالمية تعمل منذ تأسيسها في العام 1997 على كلّ الجبهات، وهي التي حصلت من بريطانيا على «وعد بلفور» الشهير، ونظّمت هجرة يهودية كبيرة للأراضي الفلسطينية على مدى أكثر من ثلاثة عقود، مروراً بحربين عالميتين استثمرت الحركة الصهيونية نتائجهما لصالح «خطّة إقامة دولة إسرائيل»، كما ربطت مصالحها الخاصة بمصالح دول كبرى بسطت سيطرتها على المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.
وكان قد سبق الإعلان عن دولة إسرائيل قرارٌ من الجمعية العامة للأمم المتحدة (رقم 181 تاريخ 29/11/1947)، نصَّ على تقسيم فلسطين (بعد إنهاء الانتداب البريطاني عام 1948) إلى دولتين: يهودية وعربية.
طبعاً، هناك متغيّرات كثيرة حدثت في العقود الستة الماضية، دولياً وعربياً وفلسطينياً، لكن العودة الآن إلى تفاصيل ما حدث في نهاية عقد الأربعينات من القرن الماضي، مردّه سعي السلطة الفلسطينية خلال هذا الشهر للحصول على عضوية دائمة في هيئة الأمم المتحدة، وبالتالي إعادة الحديث الدولي عن قرار التقسيم 181 لتكريس وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية.
لكن، هل أيٌّ من هذه الأمور سيُغيّر من الوقائع القائمة على الأرض؟ وهل ستكون محطّة الأمم المتحدة في هذا الشهر، هي نقطة تحوُّل في الصراع العربي ـ الصهيوني الممتد لقرنٍ من الزمن؟ أشكُّ في ذلك، لأنّ ما هو متوفّر الآن من ظروف وإمكانات لن يسمح بحدوث تحوّلاتٍ تاريخية في هذا الصراع، إذ هل من المؤمَّل أن يتخلّى نتانياهو عن «لاءاته» بشأن رفض الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، وإقرار حقّ الشعب الفلسطيني بالعودة، وجعل القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية المنشودة؟
أمْ هل من المؤمَّل لدى السلطة الفلسطينية أن تضغط الإدارة الأميركية على إسرائيل من أجل هذه المطالب؟ علماً بأنّ هذه الإدارة تضغط الآن على الطرف الفلسطيني لعدم طلب العضوية الدائمة، وهي تهدّد باستخدام حق النقض في مجلس الأمن، وعلماً أيضاً بأنّ الكونغرس الأميركي، بغالبية أعضائه في مجلسيْ الشيوخ والنواب، يقف مع إسرائيل، ويرفض أيَّ ضغطٍ من إدارة أوباما على الحكومة الإسرائيلية؟!
فإذا كانت إسرائيل لا تريد أن تمنح السلطة الفلسطينية المطالب والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وإذا كانت الإدارة الأميركية لا تريد أن تضغط الآن على إسرائيل بشكلٍ محرجٍ لها، فما المتوقَّع إذن من متغيّراتٍ بعد محطّة نيويورك الفلسطينية؟، ليس كثيراً، سوى العودة من جديد لأسلوب المفاوضات، كما يؤكد على ذلك رئيس السلطة الفلسطينية.
مفهومٌ الإلحاح الإسرائيلي على استئناف المفاوضات المباشرة الآن دون شروط، ففي ذلك استئناف لما حصل في السنوات الماضية من قضمٍ للأراضي الفلسطينية، ومن تهويد للقدس، ومن بناء مستوطنات جديدة فيها وفي عموم الضفة الغربية، طبعاً مع تحسين صورة إسرائيل في العالم، من خلال إظهار قادة فلسطينيين يتفاوضون ويسرحون ويمرحون مع أركان الحكم الإسرائيلي. أيضاً، تريد حكومة نتانياهو مفاوضات مباشرة تمنع الوسيط الدولي من التدخّل في تفاصيل وبرامج المحادثات مع الفلسطينيين، ممّا يزيد فرص الضغط المباشر على السلطة الفلسطينية (كما حدث في السنوات الماضية)، ثمّ تحميل إسرائيل للطرف الفلسطيني مسؤولية التأخّر في تنفيذ الاتفاقات!
مفهومٌ إذن، هذا الإصرار الإسرائيلي على المفاوضات المباشرة دون شروطٍ مسبقة، لكن لا يوجد بعدُ تفسيرٌ مقنع للتراجع الذي حصل في الموقف الأميركي في قضية تجميد الاستيطان. الكلّ يتحدّث عن حاجة أوباما في الانتخابات القادمة لدعم القوى اليهودية الفاعلة في المجتمع الأميركي، لكن أين هي الضغوط الفلسطينية والعربية على إدارة أوباما؟ ولماذا هذا التسهيل الدائم للرغبات الأميركية، ممّا يُضعف الموقفين العربي والفلسطيني معاً؟!
إنّ إسرائيل (يدعمها الموقف الأميركي) حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وأي طرف عربي، وعلى الدعوة إلى حلولٍ منفردة مع الأطراف العربية؛ ممّا يشرذم الموقف العربي أولاً (كما حدث بعد المعاهدة مع مصر)، وممّا يؤدّي أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها في النهاية مسألةَ خلافٍ محصورةً فقط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني!
إدارة أوباما تدرك أنّ استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، كهدفٍ بحدِّ ذاته، ما هو حالياً إلا مضيعةٌ للوقت، في ظلّ حكومة إسرائيلية قائمة على رفض الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وعلى الإصرار على مواصلة الاستيطان، ولا تريد أصلاً حلّ القضايا الكبرى مع الطرف الفلسطيني، رغم التنازلات الكبيرة التي قدّمتها قيادة منظمة التحرير منذ اتفاق أوسلو وحتّى الآن. لذلك، تُصبح مراهنة السلطة الفلسطينية على الوعود الأميركية مستقبلاً، هي مراهنة على مزيدٍ من التنازلات الفلسطينية ومن الاستثمار الإسرائيلي لمثلّث الضعف الأميركي والعربي والفلسطيني.
فالضغط الأميركي المنشود على الحكومة الإسرائيلية، يحتاج أولاً إلى ضغطٍ فلسطيني وعربي على واشنطن، وعلى المجتمع الدولي عموماً، من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على إسقاط تداعيات اتفاقية أوسلو، وتأكيد حقّ المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال، على أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
فلقد أعطت اتفاقيات أوسلو عام 1993 لإسرائيل الاعتراف الفلسطيني بها قبل تحديد حدود الدولة الإسرائيلية، وقبل اعتراف إسرائيل بحقّ وجود دولة فلسطينية مستقلّة، وبتسليمٍ من قيادة منظمة التحرير بنصوصٍ في الاتفاقية تتحدّث عن إعادة انتشار القوات الإسرائيلية، وليس عن انسحابٍ مُتوَجَّب على قوّاتٍ محتلّة.
فإسرائيل أخذت من الطرف الفلسطيني في اتفاق أوسلو كلّ شيء (بما في ذلك إلغاء حقّ المقاومة المسلّحة)، مقابل لا شيء عملياً لصالح القضية الفلسطينية. فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعودٍ أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل للفلسطينيين والعرب؟!
التفاوض مع إسرائيل قبل محطة نيويورك وبعدها هو مراهنة على سراب، كما هو أضغاث أحلام لا جدوى منها فلسطينياً وعربياً.
فما هو قائمٌ على أرض الواقع، هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضات أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي، هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والأميركي.