يردد الليبيون جملة أو شعرا يقول: من ليبيا يأتي عجيب أو غريب. والبعض منهم ينسبه إلى المؤرخ الإغريقي هيرودتس، وقد يكون ذلك صحيحا. فقد كانت السلع والمنتوجات الإفريقية الغريبة على اليونان والغرب تصدّر عن طريق ليبيا.
ولكنني أظن أن من كان يردد هذا القول، كان يقصد الأفكار الجديدة والغريبة على العالم، خاصة وقد كان هذا القول متزامنا مع صدور الكتاب الأخضر.
بالفعل قدمت ليبيا أغرب تجربة حكم وحياة لشعب من الشعوب، وتدل كل المؤشرات على أن ليبيا موعودة بمستقبل غريب أيضا، وذلك لأن المستقبل يبدأ دائما: هنا والآن. وهذا ليس تخمينا وضرب رمل، ولكن ما يحدث واقعيا يحدد القادم والآتي بلا جدال.
يمكن القول ـ بلا سخرية أو استهزاء ـ أن العقيد القذافي كان له شرف تأسيس أول نظام سريالي في العالم. والسريالية عرفت في الفنون فقط، ولكن «العقيد» رحلها إلى ميدان السياسة والحكم. وهو في كثير من الأحيان يميل إلى أن يسلك مثل الفنانين أكثر من السياسيين؛ في الشطحات المرسلة في المحافل واللقاءت الدولية والإقليمية، طريقة اللبس، الخيمة، الحرس النسائي، النهر العظيم، تبشير الحسناوات الإيطاليات، دعم الهنود الحمر، التفجيرات والاغتيالات، تسليم معداته الذرية.. إلخ.
فقد حوّل القذافي ليبيا إلى خشبة مسرح يقدم عليها أداء الرجل الواحد، ولم تعد ـ في نظره ـ رقعة جغرافية أو كيانا سياسيا، بل مهد الرسالة الإنسانية الجديدة، خاصة بعد أن ترجم الكتاب الأخضر إلى العديد من اللغات، وصارت المؤتمرات تعقد حوله حتى في أميركا اللاتينية. وكان العقيد قادرا بأمواله، على دعوة الكتاب والمفكرين والصحافيين، وكثير من المثقفين لا يرفض هذه الطيبات المجانية.
إن ظهور القذافي يبين كيف تدهور العرب، فهو وليد طبيعي لحقبة ما بعد النكسة. لأنه في فترات الهزيمة والإحباط والشعور بالدونية، تتهيأ الظروف لبروز نوعية من الحكام المشعوذين والسحرة والمهرجين. وقد كان هتلر نتاج هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. وجاء القذافي ليجد فراغا شاملا، خاصة بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر عام 1970.
وكانت الأحزاب والقوى السياسية اليسارية والقومية في المنطقة منكسرة وجريحة، فقد تحملت أو حملت بعضا من أسباب الهزيمة. وكانت الجماهير في حاجة إلى منقذ أو مخلص، واخترع العقيد أسطورة أن عبد الناصر قد قدمه خليفة له كزعيم للقومية العربية. وقد نشر سامي شرف المقرب من عبد الناصر وسكرتير المعلومات في عهده، الخطاب الذي يدعي العقيد أن عبد الناصر ذكر فيه أنه يرى فيه شبابه، وأنه جدير حتى بحكم مصر!
وبين أن هذا القول لم يرد أبدا في ذلك الخطاب الذي القاه عبد الناصر في يونيو 1970، حين شارك في احتفالات جلاء القوات الاميركية عن قاعدة «هويلس» الجوية الليبية.
وقد استغل العقيد هذه الجملة المفبركة جيدا، كشهادة اعتماد وخلافة شرعية لعبد الناصر، ولكنه في النهاية سبّ العرب واتجه نحو إفريقيا.
وهذا الرجل الذي يوصف الآن بالجنون وتصب عليه كل الشتائم، بايعه الكثير من المثقفين والحزبيين والنشطاء، حين كانوا يلبون دعواته وينشدون مساعداته. ولذلك، صمتوا عن نقد قمعه للشعب الليبي.
تقود النقطة السابقة إلى طرح السؤال: ما هي حقيقة علاقة المثقف العربي بما يسمى الزعيم «الثوري»؟ هناك تواطؤ أو مقايضة أضرت كثيرا بالتقدم في المنطقة، فقد كان الكثيرون معارضين للاستبداد والدكتاتورية في بلادهم، بينما يتعاونون ويؤيدون طغاة ودكتاتوريين. فمن الغريب أن يستضيف القذافي وصدام حسين معارضين سياسيين ضد نظم الحكم في بلدانهم لأنها قمعية وغير ديمقراطية! وهذا انفصام غريب ساعد في استدامة الاستبداد، بل وتبريره.
وفي الحالتين، يلعب «ذهب المُعز»، وليس الأفكار والمبادئ، دورا حاسما. طبّق القذافي حرفيا المبدأ الثوري المعروف: تحطيم أو هدم النظام القديم. فقد مسح أو ألغى كل تاريخ وتراث ليبيا قبل الفاتح من سبتمبر 1969.
وكان جذريا في تحقيق هذه الغاية، وتمثلت جذريته في النظام الجماهيري والكتاب الأخضر.
وكانت وسيلته إلى ذلك مختلفة تماما، فقد فرض القمع والطاعة من خلال سيطرة الفوضى ـ إن صح التعبير ـ خلافا للضبط الحديدي. فهو يقول انه ليس حاكما وليست له سلطة، ولو كانت لديه سلطة لرماها على وجه المتظاهرين! وهنا لا يدري المواطن المسكين من الذي يحكمه؟ ومن ناحية أخرى، غيّب ـ فلسفيا ـ كل المؤسسات. فهو القائل في الكتاب الأخضر: «من تحزب خان» أو «التمثيل تدجيل».
كما أن المعارضة مستحيلة، طالما كانت كل السلطة في يد الشعب، فمن يعارض؛ يعارض في الحقيقة الشعب نفسه! ويظهر تناقض العقيد بوضوح حين يصدر أفكاره للخارج، إذ بينما يقول داخل ليبيا «من تحزب خان»، يقوم بتشكيل حزب اللجان الثورية في السودان. ولكن هذه الوسائل الفوضوية كانت ناجعة في ليبيا، فقد نجح في تجريف وتصحير المجتمع الليبي تماما وجعله خارج التاريخ، لذلك بدت الانتفاضة الشعبية أو الثورة، أقرب إلى المعجزة الليبية. الآن سقطت العاصمة طرابلس، وسقوط العاصمة عادة يعني سقوط النظام وزعيمه أيضا.
ولكن بالنسبة للقذافي، فليبيا مجرد موقع جغرافي، بينما أفكاره للعالم كافة. وكان دائما يعتبر نفسه أكبر من ليبيا ومن الشعب الليبي، ولذلك يتبسط في شتمه بهذه الطريقة المقذعة. وسوف تنطلق اشباحه في إفريقيا أولا، ثم ستعبر البحر الأبيض المتوسط. ومن المعلوم، أن العقيد عمل بنشاط وهمة في إفريقيا خلال سنوات، واستثمر أمواله سياسيا، مستغلا حالة الفقر اللعين في القارة وقابلية زعمائها للإفساد.
وكان القذافي يخوف الغرب والناتو بفزّاعة القاعدة، وهي الآن حقيقة في ليبيا الجديدة، وهذا هو الخيار الصعب للغرب. وكل الأمل لإفشال أشباح القذافي، يكمن في أن يلتزم عناصر القاعدة بالمراجعات التي قاموا بها، حيث قرروا نبذ العنف. وسيحاول العقيد اللعب على التوجهات الإسلامية الغالبة على تكوين الثوار السياسي.
ولأن الحياة الحزبية كانت معدومة في ليبيا، يبقى من الصعب رسم خريطة لانتماءات حزبية، وسوف تظهر المشاكل والخلافات مع بدء تكوين الأحزاب.
وهذه بعض آثار نظام العقيد الجماهيري، والتي سيستمر أثرها طويلا، لأن الضرر الذي وقع على الليبيين كان بليغا.