وهكذا كانت النهاية!
تلك النهاية التراجيدية لمعمر القذافي، ربما لخصت حكاية الدكتاتورية في منطقتنا. فالزعامة التي تتعالى على شعوبها ولا تعرف كيف تقرأ التحولات المتسارعة من حولها، داخل بلدانها وخارجها، ناهيك عن قدرتها على قراءة التاريخ وفهم عبره، لا بد أن تنتهي هكذا.. كنهاية القذافي!
هذا ليس مقاما للشماتة في من ذهب إلى حتفه، وليس تبريراً لمن أطلق "رصاصة الرحمة" على القذافي، فتلك قصة أخرى. لكنني هنا أتأمل تحديداً في نهاية الدكتاتور. سبحان الله؛ كيف تتشابه (حد التطابق) نهايات الطغاة على مر التاريخ؟ وهنا يكمن الفرق في النهايات بين من تخرج الملايين طواعية لوداعه الأخير، وبين من ترقص فوق جثته جموع المظلومين والمقهورين والمهانين، بسبب بطشه وغطرسته وجنون عظمته! هذا ليس وقت الشماتة، وكيف لنا أن نضيع فرصة الفرح بانتصار الليبيين في ثورتهم، بالشماتة من متغطرس لقي حتفه كما أراد هو لنفسه؟
على مدى الأشهر الماضية كنت، مثل كثيرين غيري أسأل: ما الذي يدفع بالقذافي وأولاده لإطالة وقت المواجهة المحسومة سلفاً لصالح الثورة؟ هل هي "مناورة" من أجل التفاوض على خروج يضمن لهم عدم الملاحقة القانونية على جرائمهم وهدرهم المجنون لثروات الليبيين وطغيانهم واحتقارهم للبلاد وأهلها؟
كانت المعركة ـ مهما تعثرت في بعض مراحلها ـ محسومة لصالح الليبيين، على الرغم من الفارق النوعي بين أسلحتهم وأسلحة كتائب القذافي. كان الثوار يملكون السلاح الأقوى، ألا وهو إيمانهم بثورتهم وبأن النصر حليفهم وأن المستقبل لهم. ما إن يكسر المرء حاجز الخوف داخله حتى يبدأ مشوار الانتصار، خاصة في معركة الانتصار للذات من ذل الأنظمة القمعية وإهاناتها.
وإلى أسابيع قريبة كانت ثمة فرصة للقذافي لأن يخرج من ليبيا بسلام ويذهب ـ إلى غير رجعة ـ لأحد البلدان التي أغدق عليها من ثروات الليبيين في لعباته السياسية السخيفة، ومن أجل ألقابه الكثيرة من ملك ملوك إفريقيا إلى عميد الحكام العرب! حينها سألت صديقاً يتابع الشأن الليبي: وكيف يمكن للقذافي أن يعيش من غير خيمته وخطاباته ومقابلاته التلفزيونية المضحكة؟ قال صديقي إن الثوار ـ وقتها- كانوا يفضلون حقن الدماء، حتى وإن كان الثمن السماح للقذافي وعصابته بمغادرة ليبيا إلى دولة ترحب باستضافته.
وهناك بإمكانه نصب "خيمة الكذب" في حديقة قصر منفاه، وله أن يحولها إلى "استوديو" في قناة فضائية عربية يشتريها مثلما اشترى غيرها، ويواصل إمتاعنا بتهريجه وأزيائه البهلوانية! أم هي القدرة الإلهية العادلة التي قادت القذافي إلى النهاية المهينة التي يستحقها؟
إن ربك يمهل ولا يهمل! فهذا "المهرج" الذي أتحفنا بتهريجه طويلاً، كان يقود بلاده وشعبه نحو التهلكة. أذكر زميلا ليبياً كان، في بداية الثورة، يحذرنا بحرقة: "لا يشغلكم القذافي بتهريجه عن الانتباه لجرائمه"! ويضيف: "إنه مجرم وليس ممثلا كوميديا". انشغلنا لعقود بخطابات القذافي ومقابلاته وملابسه، عن جرائمه الخطيرة في حق الليبيين من إهدار لأرواحهم وثرواتهم ومستقبلهم. كان القذافي قد اختزل ليبيا بثرواتها وتاريخها وأهلها، في شخصه هو وحده لا منافس له. وفي مجونه السياسي أهدر ثروات ليبيا على شراء الذمم في الشرق وفي الغرب، ليس لخدمة مشروع سياسي ليبي، وإنما لستر عوراته من إرهاب إلى شراء ألقاب إلى مؤامرات ضد من يجرؤ على الاختلاف معه.
لقد عانى الليبيون طويلاً من نظرة العالم لهم وتصنيفهم في دوائر الإرهاب، بسبب "البلطجة" التي لم يتقن سواها معمر القذافي وأجهزته الأمنية. وحينما انطلقت الثورة، فوجئ العالم بثروة بشرية خنقها القذافي أربعة عقود. فجأة اكتشفنا أن في ليبيا ـ من المقموعين في الداخل والمشردين في الخارج ـ عقولا متألقة في إنسانيتها وعلمها ووعيها. ولهذا، وعلى الرغم من القلق المشروع على مستقبل ليبيا، يطمئن الراصد للمشهد الليبي الجديد أن شباب ليبيا (وهم من أشعل فتيل الثورة) قادر، بوعيه الجديد وانفتاحه على حقائق عالمه، على إثبات أن ليبيا الجديدة عازمة على دخول العصر الجديد، لا البقاء رهينة لزمن القذافي بمؤامراته وجنونه.
وهكذا نراقب المشهد الليبي بعيون متفائلة في شباب الثورة، الذين يستطيعون استبدال عقلية "الثأر" بروح التسامح والعمل الإيجابي. إنهم مطالبون بالخروج من حقبة القذافي وطي صفحتها نهائياً، والدخول بثقة وحنكة لعالم جديد مليء بالتحديات وبالفرص الذهبية لبناء دولة المؤسسات، القادرة على بناء اقتصاد قوي ونظام سياسي لا يختزل الدولة في "الزعيم"، ولا يقدس المسؤول أو يضعه في مكانة من لا ينطق عن الهوى. فهل يعتبر شباب الثورة الليبية (وأقرانهم في العالم العربي) بنهاية القذافي، وهم يبدؤون مشروع الدولة الجديدة؟ هنا يبدأ التحدي!